أسس وتجارب في التعامل مع الناس3

.

عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَقَالَ ائْذَنُواْ لَهُ فَبِئْسَ ابْنُ العَشِيرَةِ أَوْ بِئْسَ أَخُو العَشِيرَةِ فَلَمَّا دَخَلَ أَلانَ لَهُ الكَلامَ فَقُلْتُ لَهُ يَا رَسُولَ اللهِ قُلْتَ مَا قُلْتَ ثمَّ أَلَنْتَ لَهُ في القَوْلِ فَقَالَ أَيْ عَائِشَةُ إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ “0أخرجه البخاري ( 4 /125 – 126،142 ) ومسلم (8 /21) وأبو داود (4791 ) والترمذي ( 1 / 360 ) و أحمد ( 6 / 38 ).

عَنْ عَلِيٍّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : أَحِبَّ حَبِيبَكَ هَوْنًا مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ بَغِيضَكَ يَوْمًا مَا ، وَأَبْغِضْ بَغِيضَكَ هَوْنًا مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ حَبِيبَكَ يَوْمًا مَا. هَذَا حَدِيثٌ مَوْقُوفٌ إِسْنَادُهُ حَسَنٌ .البوصيري : اتحاف الخيرة المهرة 6/106.

قال بشار بن برد :

إِذَا كُنْتَ فِي كُلِّ الْأُمُورِ مُعَاتِبًا * * * صَدِيقَكَ لَمْ تَلْقَ الَّذِي لَا تُعَاتِبُهْ

فَعِشْ وَاحِدًا أَوْ صِلْ أَخَاكَ فَإِنَّهُ * * * مُقَارِفُ ذَنْبٍ مَرَّةً وَمُجَانِبُهْ

إِذَا أَنْتَ لَمْ تَشْرَبَ مِرَارًا عَلَى الْقَذَى * * * ظَمِئْتَ وَأَيُّ النَّاسِ تَصْفُو مَشَارِبُهْ

أنشد ثعلب:

أُغمِّضُ عَيني عَن صَديقي تَجَسُّماً * * * كَأَنّي بِما يَأتي مِن الأَمرِ جاهِلُ

وَما بِيَ جَهلٌ غَيرَ أَنَّ خَليقَتي * * * تُطيقُ اِحتمالُ الكُرهِ فيما تُحاوِلُ

وليس معنى قبول الناس على ما هم عليه عدم النصح لهم , أو محاولة التغيير من سلوكياتهم وأخلاقهم , فذلك مما يتعارض مع تعاليم الإسلام الذي يدعو إلى الايجابية وعدم الإمعية في التعامل مع الخلق , عَنْ حُذَيْفَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: لاَ تَكُونُوا إِمَّعَةً ، تَقُولُونَ : إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا ، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا ، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكْمْ ، إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا ، وَإِنْ أَسَاؤُوا فَلاَ تَظْلِمُوا. أخرجه التِّرْمِذِي (2007) الألباني : ضعيف الجامع الصغير (6271).

بل إن قبول الناس على ما هم عليه يعني التعامل بواقعية مع ضعفهم وأخطاءهم , وتوقع الهفوات والزلات منهم .

شكا لي أحد الأصدقاء من صديق له هوايته المبالغة في الكلام , وتضخيم الأمور ووضعها في غير موضعها , حتى أنه وصف لي كلامه وصفا ظريفا فقال : ( إن نصف حديثه إسرائيليات والنصف الآخر أحاديث موضوعة ) قلت له : وماذا عن أخلاقياته ؟ . قال : رجل بمعنى الكلمة كلما احتاجه أجده بجانبي , وأمين لا يخون , قلت : جميل , إذن فاقبله على ما هو عليه وحاول أن تغير مما تراه لا يصلح للصداقة الخالصة الصادقة .

ثالثاً : عليك باليأس مما في أيدي الناس :

بعض الناس يضع آماله وطموحاته كلها على الناس , ويراقبهم أكثر مما يراقب ربه تعالى , وقد قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم : ” وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ .. (37) سورة الأحزاب .

فالراحة كل الراحة في عدم الطمع مما في أيدي الناس , وأن لا يراقبهم بل ويستوي عنده المادح والذام , عَنْ إِسْمَاعِيلَ الأَنْصَارِيِّ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، أَنَّ رَجُلا مِنَ الأَنْصَارِ قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَوْصِنِي وَأَوْجِزْ ، فَقَالَ : عَلَيْكَ بِالْيَأْسِ مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ ، وَإِيَّاكَ وَالطَّمَعَ فَإِنَّهُ فَقْرٌ حَاضِرٌ ، وَصَلِّ صَلَوَاتِكَ وَأَنْتَ مُوَدِّعٌ وَإِيَّاكَ وَمَا يُعْتَذَرُ مِنْهُ .[كنز العمال 8852 ] أخرجه: ابن أبى عاصم فى الآحاد والمثانى (4/246 ، رقم 2249) .

وعَنْ ثَوْبَانَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: : مَنْ يَضْمَنُ لِي وَاحِدَةً ، وَأَضْمَنُ لَهُ الْجَنَّةَ ؟ قَالَ : قُلْتُ : أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ ، قَالَ : لاَ تَسْأَلِ النَّاسَ شَيْئًا.

فَكَانَ ثَوْبَانُ يَقَعُ سَوْطُهُ ، وَهُوَ رَاكِبٌ ، فَلاَ يَقُولُ لأَحَدٍ نَاوِلْنِيهِ ، حَتَّى يَنْزِلَ فَيَتَنَاوَلَهُ. أخرجه أحمد 5/277(22744) و”ابن ماجة” 1837 و”النَّسائي” 5/96 ، وفي “الكبرى” 2382 ( صحيح ) انظر حديث رقم : 7307 في صحيح الجامع .

فالأرزاق مقدرة والآجال مقدرة والناس لا تملك لك غنى ولا فقرا ولا حياة ولا موتا , عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليس من عمل يقرب إلى الجنة إلا قد أمرتكم به ولا عمل يقرب إلى النار إلا قد نهيتكم عنه لا يستبطئن أحد منكم رزقه أن جبريل عليه السلام ألقى في روعي أن أحدا منكم لن يخرج من الدنيا حتى يستكمل رزقه فاتقوا الله أيها الناس واجملوا في الطلب فإن استبطأ أحد منكم رزقه فلا يطلبه بمعصية الله فإن الله لا ينال فضله بمعصية ( الحاكم في مستدركه ج 2/ ص 5 حديث رقم: 2136 وهو صحيح).

قال الشاعر :

لا تَخْضَعَنَّ لِمَخْلُوقٍ عَلَى طَمَعٍ * * * فَإِنَّ ذَلِكَ نَقْصٌ مِنْك فِي الدِّينِ

وَاسْتَرْزِقْ اللَّهَ مِمَّا فِي خَزَائِنِهِ * * * فَإِنَّمَا هُوَ بَيْنَ الْكَافِ وَالنُّونِ

قال شقيق بن إبراهيم البلخي قال لي إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى أخبرني عما أنت عليه قلت إن رزقت أكلت وإن منعت صبرت قال هكذا تعمل كلاب بلخ فقلت كيف تعمل أنت قال أن رزقت آثرت وان منعت شكرت.

أيا مالك لا تسأل الناس والتمس * * * بكفيك فضل الله فالله أوسع

ولو تسأل الناس التراب لأوشكوا * * * إذا قيل هاتوا أن يملوا ويمنعوا

ومن راقب الناس مات كمدا ورضا الناس غاية لا تدرك , فلا تضيع وقتك في تتبع كلام الناس عنك ومن مدحك ومن ذمك.

كنت في بداية حياتي في الخطابة حينما أنتهي من خطبة الجمعة أو إلقاء محاضرة ما أهتم كثيرا بما يقولونه الناس عن الخطبة أو المحاضرة , وأسعد كثيرا بالثناء وأحزن كثيرا للنقد والملاحظات , ولكن مع مرور الأيام واكتساب الخبرات وجدت أن هذا الأمر يسبب لي كثيرا من الإزعاج , وأن ثناء الناس قد يكون من باب المجاملة وفقط وأن نقدهم قد تكون له أسباب أخرى غير النقد والتصحيح , ثم صار الأمر عندي على السواء .

رابعاً : التمس لأخيك سبعين عذراً :

بعض الناس لا يشغله إلا تتبع سقطات الناس وإساءة الظن بهم , وسوء الظن بالناس نهانا عنه الدين الحنيف , قال تعالى : ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ” (12) سورة الحجرات .

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ:إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ ، وَلاَ تَحَسَّسُوا ، وَلاَ تَجَسَّسُوا ، وَلاَ تَحَاسَدُوا ، وَلاَ تَدَابَرُوا ، وَلاَ تَبَاغَضُوا ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا.

– وفي رواية : إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ ، وَلاَ تَحَاسَدُوا ، وَلاَ تَنَافَسُوا ، وَلاَ تَبَاغَضُوا ، وَلاَ تَدَابَرُوا ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا. أخرجه عَبْد الرَّزَّاق (20228) . وأحمد 2/312(8103) و”البُخاري” 6064 .

وقد طبق رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك عمليا مع أصحابه في قصة حاطب بن أبي بلتعه , فعَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ أَبِى رَافِعٍ ، وَهُوَ كَاتِبُ عَلِيٍّ ، قَالَ : سَمِعْتُ عَلِيًّا ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَهُوَ يَقُولُ:بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَا ، وَالزُّبَيْرَ ، وَالْمِقْدَادَ ، فَقَالَ : ائْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ ، فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً ، مَعَهَا كِتَابٌ ، فَخُذُوهُ مِنْهَا ، فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا ، فَإِذَا نَحْنُ بِالْمَرْأَةِ ، فَقُلْنَا : أَخْرِجِي الْكِتَابَ ، فَقَالَتْ : مَا مَعِي كِتَابٌ ، فَقُلْنَا : لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ ، أَوْ لَتُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ ، فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا ، فَأَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَإِذَا فِيهِ : مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبي بَلْتَعَةَ ، إِلَى نَاسٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ ، يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : يَا حَاطِبُ ، مَا هَذَا ؟ قَالَ : لاَ تَعْجَلْ عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنِّي كُنْتُ امْرَءًا مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ – قَالَ سُفْيَانُ : كَانَ حَلِيفًا لَهُمْ ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا – وَكَانَ مِمَّنْ كَانَ مَعَكَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ ، لَهُمْ قَرَابَاتٌ يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ ، فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنَ النَّسَبِ فِيهِمْ ، أَنْ أَتَّخِذَ فِيهِمْ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِي ، وَلَمْ أَفْعَلْهُ كُفْرًا ، وَلاَ ارْتِدَادًا عَنْ دِينِي ، وَلاَ رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الإِسْلاَمِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : صَدَقَ ، فَقَالَ عُمَرُ : دَعْنِي يَا رَسُولَ اللهِ ، أَضْرِبُ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ ، فَقَالَ : إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا ، وَمَا يُدْرِيكَ ، لَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ ، فَقَالَ : اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ، فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ .أخرجه أحمد 1/79(600. والبُخَارِي 4/72(3007) و”مسلم” 7/167 (6485) و”أبو داود” 2650 و”التِّرمِذي” 3305 .

فقد أخطأ حاطب بن أبي بلتعة في ظنه إعلام قومه بخبر قدوم النبي إليهم لفتح مكة ، وهو خطأ لا يقصد منه صاحبه خيانة الله ورسوله , لكن انظر كيف تعامل النبي عليه الصلاة والسلام مع هذا الخطأ الغير مقصود ، فلم يجرح صاحبه ، بل ولم يعنفه , بل والتمس له العذر , وفي ذلك نزل قوله تعالى : {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(10) . سورة المجادلة (22)وانظر:( تفسير الطبري 23/311) .

يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “لا تظن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن شرًّا، وأنت تجد لها في الخير محملاً “.

وقال ابن سيرين رحمه الله: ” إذا بلغك عن أخيك شيء فالتمس له عذرًا ، فإن لم تجد فقل: لعل له عذرًا لا أعرفه “.

وقال : حَمْدُونَ الْقَصَّارَ، يَقُولُ: ” إِذَا زَلَّ أَخٌ مِنْ إِخْوَانِكُمْ، فَاطْلُبُوا لَهُ سَبْعِينَ عُذْرًا، فَإِنْ لَمْ تَقْبَلْهُ قُلُوبُكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ الْمَعِيبَ أَنْفُسُكُمْ حَيْثُ ظَهَرَ لِمُسْلِمٍ سَبْعُونَ عُذْرًا، فَلَمْ يَقْبَلْهُ “. شعب الإيمان للبيهقي 13 / 504.

قال الشاعر :

تأن ولا تعجل بلومك صاحبًا * * * لعل له عذرًا وأنت تلوم

وفال القاسمي : «يَنْبَغِي أَنْ تَسْتَنْبِطَ لِزَلَّةِ أَخِيكَ سَبْعِينَ عُذْرًا ، فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْهُ قَلْبُكَ فَرُدَّ اللَّوْمَ عَلَى نَفْسِكَ فَتَقُولُ لِقَلْبِكَ : مَا أَقْسَاكَ يَعْتَذِرُ إِلَيْكَ أَخُوكَ سَبْعِينَ عُذْرًا فَلَا تَقْبَلُهُ فَأَنْتَ الْمَعِيبُ لَا أَخُوكَ» وَقَالَ «الْأَحْنَفُ» : «حَقُّ الصَّدِيقِ أَنْ تَحْتَمِلَ مِنْهُ ثَلَاثًا : ظُلْمُ الْغَضَبِ وَظُلْمُ الدَّالَّةِ وَظُلْمُ الْهَفْوَةِ».انظر : موعظة المؤمنين 1/163.

وها هو الإمام الشافعي رحمه الله حين مرض وأتاه بعض إخوانه يعوده، فقال للشافعي: قوى لله ضعفك، قال الشافعي: لو قوى ضعفي لقتلني ، قال: والله ما أردت إلا الخير. فقال الإمام: أعلم أنك لو سببتني ما أردت إلا الخير.فهكذا تكون الأخوة الحقيقية إحسان الظن بالإخوان حتى فيما يظهر أنه لا يحتمل وجها من أوجه الخير.

من كان يرجو أن يسود عشيرة * * * فعليه بالتقوى ولين الجانب

ويغض طرفا عن إساءة من أساء * * * ويحلم عند جهل الصاحب

مر أبو الدرداء رضي الله عنه على رجل قد أصاب ذنبا والناس يسبونه، فلم يعجبه ما رأى من صنيعهم، وأراد أن يضيف إليهم من خبرته العميقة في الدعوة، قاعدة لم يبد له أنهم يعرفونها فقال لهم:((لو وجدتموه في قليب، ألم تكونوا مستخرجيه؟قالوا: بلى.قال: فلا تسبوا أخاكم، واحمدوا الله الذي عافاكم. فقالوا: أفلا نبغضه؟فقال: إنما أبغض عمله، فإذا تركه، فهو أخي)).

قال الشاعر :

سامح أخاك إذا خلط * * * منه الإصابة بالغـــلط

و تجافَ عن تعنيفه * * * إن زاغ يوماً أو قســــط

و اعلم بأنك إن طلبت * * * مهذباً رمت الشطـــط

من الذي ما ساء قط * * * ومن له الحسنى فقط

وقد حكي عن الأحنف ابن قيس أنه قال: ما عاداني أحد قط إلا أخذت في أمره ثلاث خصال:

إن كان أعلى مني عرفتُ له قدره , وإن كان دوني رفعتُ قدري عنه , وإن كان نظيري تفضلت عليه. فالتمس الأعذار للناس حتى يلتمسون لك الأعذار .

أعرف أحد الناس كثيرا ما يسيء الظن بالناس , ولا يثق في أي شخص , وتحول الأمر عنده إلى وسواس ومرض , حتى أفسد عليه ذلك المرض حياته فهجره أصدقاؤه وأقاربه , وصار عاقا لوالديه , وانتهى به الأمر إلى الانفصال عن زوجته وهدم حياته وتشرد أولاده , وكل ذلك بسبب سوء الظن وعدم التماس الأعذار للناس .

خامساً : لا تجعل الناس في سلة واحدة :

بعض الناس لا يحكم على الناس إلا من خلال المظاهر فقط , وينسى قول الله تعالى : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أتقاكم } [ الحجرات : 13 ] .

فهو يضع الناس جميعاً في سلة واحدة , ويتعامل معهم من منطلق واحد , ومن مفهوم لا يتغير , وينسى أن من الناس من هو سهل ومنهم من هو صعب , وأن فيهم العالم وفيهم الجاهل , وفيهم الحكيم وفيهم المتهور , وهذا ما أكد عليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله , مما روي عَنْ أَبي مُوسَى الأَشْعَريِّ رضي الله عنه قال : قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: إِنِّ الله تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الأَرْضِ ، فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الأَرْضِ ، فَجَاءَ مِنْهُمُ الأَحْمَرُ، وَالأَبْيَضُ ، وَالأَسْوَدُ ، وَبَيْنَ ذَلِكَ ، وَالسَّهْلُ ، وَالْحَزْنُ ، وَالْخَبِيثُ ، وَالْطَّيِّبُ. أخرجه أحمد 4/40، وأبو داود 4693 والترمذي 2955. سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم الحديث 1630

ولقد تمثل بعض الشعراء هذا المعنى, فقال:

الناس كالأرض ومنها هُُمُ *** فمن خَشنِ الطبع ومن ليِّنِ

فجنـدلٌ تدمـى بـه أرجـلٌ *** وإثـمدٌ يـُوضـع في الأعـينِ

ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ” إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ. أخرجه أحمد 2/484(7814) و”مسلم” 8/11 و”ابن ماجة” 4143 .

بل وطبق صلى الله عليه وسلم ذلك عملياً , فعن أَبِى حَازِمٍ , عن سهل بن سعد الساعدي , قَالَ:مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم رجل. فَقَالَ النبي : مَا تَقُولُونَ في هَذَا ؟ قَالُوا : رأيك في هذا.نقول : هذا من أشرف الناس , هذا حَرِيٌّ , إِنْ خَطَبَ , أَنْ يخطب ، وَإِنْ شَفَعَ , أَنْ يُشَفَّعَ ، وَإِنْ قَالَ : أَنْ يُسْمَعَ لقوله , فسَكَتَ النبي صلى الله عليه وسلم , وَمَرَّ رَجُلٌ آخر , فقال النبي صلى الله عليه وسلم : مَا تَقُولُونَ في هَذَا ؟ قَالُوا : نقول : والله يا رسول الله , هذا من فقراء المسلمين , هذا حَرِيٌّ , إِنْ خَطَبَ , لمَ يُنْكَحَ , وَإِنْ شَفَعَ , لاَ يُشَفَّعَ ، وَإِنْ قَالَ , أَنْ لاَ يُسْمَعَ لقوله , فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم : لهَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْلَ هَذَا. أخرجه البخاري 7/9(5091) و”ابن ماجة” 4120 .

وعنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ :رُبَّ أَشْعَثَ مَدْفُوعٍ بِالأَبْوَابِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لأَبَرَّهُ. أخرجه مسلم 8/36 و154.

وروى البخاري عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : “بال أعرابي في المسجد فقام الناس إليه ليقعوا فيه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : دعوه وأريقوا على بوله سجلا ( دلوا ) من ماء ، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين “. أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بترك هذا الأعرابي الجاهل حتى ينتهي من بوله ، فلما انتهي أمر أن يراق على بوله ذنوبا من ماء فزالت المفسدة . ثم دعا الرسول صلى الله عليه وسلم ، الأعرابي فقال : “إن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من الأذى أو القذر إنما هي للصلاة وقراءة القرآن ” . رواه البخاري 1/65(221) .

فالحكم على الناس لا يكون من خلال المظهر فقط بل لا بد من المعايشة والتجربة , جاء رجل يشهد لرجل بالصلاح عند أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه فقال له: أأنت جاره الأدنى الذي يعرف مدخله ومخرجه؟ قال: لا، قال: أسافرت معه في سفر طويل يسفر عن أخلاق الرجال؟، قال: لا، قال: أعاملته بالدينار وبالدرهم ـ الذي به يظهر ورع المرء من شرهه ـ؟ قال: لا، قال: لعلك رأيته في المسجد يمسك بالمصحف، يقرأ القرآن، يرفع رأسه تارة ويخفضها تارة؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: اذهب فلست تعرفه، وقال للرجل: ائتني بمن يعرفه.إحياء علوم الدين 2/83.

قال الشاعر :

لا يغرنك من المرء قميص رقعه * * * أو إزارا فوق كعب الساق منه رفعه

أو جبين لاح فيه أثر قد قلعه * * * ولدى الدرهم فانظر غيه أو ورعه

كما أن مخاطبة الناس لا تكون بأسلوب واحد لا يتغير حسب الزمان والمكان والأشخاص , بل لا بد أن يراعى المقال مقتضى الحال , قال علي رضي الله عنه ” حدثوا الناس بما يعرفون ، أتريدون أن يكذب الله ورسوله ؟! . أخرجه البخاري (127) .

وقال ابن مسعود رضي الله عنه : “إنك لن تحدث قوماً بحدث لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة”. رواه مسلم في (( مقدمة الصحيح )) (1/11).

كنت – أيضاً – في بداية حياتي الخطابية لم أتعلم بعد التنوع في أسلوب الخطابة , فكنت أحيانا أذهب إلى بعض قرى الريف فأحاول أن يكون كل حديثي باللغة الفصحى التي أعشقها وأعتز بحبها والانتساب إليها , وكنت أجد الاستغراب من الناس أو عدم الفهم لكل ما أقول , حتى تعودت بعد ذلك من خلال التجربة أن تكون لكل فئة أسلوبها , وأن يكون لكل مقام مقال ؛ فالمسجد الذي غالب أهله من القرويين البسطاء , يختلف الأسلوب فيه عن المسجد الذي به نسبة من القرويين ونسبة من المتعلمين , عن المسجد الذي تكون الغالبية فيه من المتعلمين , وأسلوب الخطبة غير أسلوب الدرس غير أسلوب المحاضرة .

وكل ذلك من قبيل حسن التعامل مع الناس والتواصل معهم , فالإحسان إلى الناس وحسن التعامل معهم فن يحتاج إلى دربة ودراسة واكتساب الخبرات من الحياة , ومن خلال المواقف الصعبة قبل السهلة .

قال أبو الفتح البستي :

أحسِنْ إلـى النّـاسِ تَستَعبِدْ قُلوبَهُمُ * * * فطالَمـا استعبدَ الإنسـانَ إحسانُ

مَنْ يزرع الشَّرَ يَحْصُدْ في عَواقِبه * * * وعاشَ وهْو قَرِير العينِ جَذْلاَنُ

مَنْ اسْتَنَامَ إلى الأشْرارِ نَامَ وفي * * * نَدامةً، ولِحَصْدِ الزَّرْعِ إبَّانُ

أحْسِنْ إذا كان إمكانٌ ومقدرةٌ * * * رِدَائِه مِنْهُمُ صِلّ وثُعبانُ

فالروض يزدان بالأنوار فاغمه * * * فلن يدوم على الإحسان إمكان

وأخيرا .. فإن كسب قلوب الناس مهمة ليست باليسيرة إلا لمن يسرها الله تعالى له ؛ ولذا علينا أن نلح على الله بالدعاء ليفتح قلوبنا وقلوبهم للحق ويجعلنا وإياهم أنصارًا لدينه وحملة دعوته. ومع هذا الدعاء لا بد من الأخذ بالأسباب التي توصلنا بإذن الله إلى كسب القلوب الشاردة وتأليف الصدور المتنافرة , وكل ذلك يتطلب منك تحديد الهدف والتحقق من الوسيلة , وأن يكون عملنا كله خالصا لوجه الكريم فالإخلاص طريق القبول , وصدق الغاية سر الوصول .

hamesabadr@yahoo.com

2 thoughts on “أسس وتجارب في التعامل مع الناس3”

التعليقات مغلقة.

نُشرت بواسطة

إدارة الموقع

إدارة الموقع

موقع تربوي يقدم تجربته في الحوار والإثراء المعرفي من عالم التطبيقات وعالم الواتساب الصغير إلى عالم المواقع وعالم الإثراء الكبير.