“الكتاب الذي لا ريب فيه” – 1

 

 

الحمد لله الذي نزل القرآن على عبده ليكون للعالمين نذيرًا، والصلاة والسلام على من أيده الله عز وجل بهذا “الكتاب الذي لا ريب فيه”.. مبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه الذين اتخذوا القرآن منهجا ومرشداً ومربياً وهادياً ودليلا.

لا تجد كاتباً يكتب، أو مصنفاً يصنف، أو مؤلفاً يؤلف، أو منظراً يُنظر في هذا الفرع من العلم أو التربية أو الثقافة أو الفكر إلا ويعلم أن ما كتبه أو صنفه أو ألفه أو نظره ما هو إلا إنتاج ناقص غير مكتمل، وبه مثالب كثيرة. وكلما أعدنا النظر فيه كرة بعد أخرى تراه يعدّل ويقوم، ويضيف ويحذف ويغير ويبدل ويحسن ويجود ويشك ويستيقن. لذا فهو يسعي ـ قبل أن تقع عليه أعين القراء، والرقباء، والأنداد والنقادـ دوما لستر” العيوب، ورتق الفتوق، إصلاح المعيب، وتقويم المثالب، وتقليل الشكوك والريب حول جودة العمل ومدى صدقه وابتكاره.

وهؤلاء وأولئك عدما يقرؤون وينتقدون إنما يُنظرون بـ “عين الشك والريبة” فيما هو مطروح أمامهم من جهد تربوي أو فكري أو علمي أو ثقافي الخ، وغالباً ما تكون تلكم “العين الناقدة/ الشاكة” هي الأعلى سطوة، والأقوى تأثيراً.

وبعد..

لا أظنني قد أطلت كثيرا في هذه التقدمة، فلها أهميتها وضرورتها الكبيرة. فأما آن لكل توجه وعمل قل أو كثر، شرق أو غرّب أن ينهل من هذا المعين. أما آن لكل مرجعية أن تتمثل هذا الكتاب الذي “لا ريب فيه”: “الــم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ” (البقرة 1-2).

أما آن لكل من يريد الهدي والهداية والتربية والحكمة والحياة الكريمة، والحق والعدل والخير، والآخرة السعيدة الهائنة أن يكون نبراسه، ومشعل تنويره، ومنارته، ودليله، وهدايته ذلك الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه:”إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ، لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ” (فصلت:41-42).

ما أَحْوَجَنَا اليوم إلى القرآن الكريم ، نتحرك به في حياتنا، نتمثله في كل أوجه نشاطنا، نطبقه مع تلاوته، نَحْكم به، ونعمل بأحكامه، مع الاستماع إليه، ِنتزكى به مع تلقينه، نتدبره، مع حفظه، نتبَيِّن وجوه إعجازه مع درسه، ونتأمل بَعْض أسراره وعجائبه، مع الإنصات إليه، وهو الذي لا تنقضي عجائبه ولا يخلق عن كثرة الرد. ففي الحديث:” فِيهِ نَبَأُ مَا قَبْلَكُمْ وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ ، لَيْسَ بِالْهَزْلِ ، مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ وَمَنِ ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ ، وَهُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ وَنُورُهُ الْمُبِينُ وَالذِّكْرُ الْحَكِيمُ ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ ، وَهُوَ الَّذِي لاَ تَزِيغُ بِهِ الأَهْوَاءُ ، وَلاَ تَلْتَبِسُ بِهِ الأَلْسِنَةُ ، وَلاَ تَتَشَعَّبُ مَعَهُ الآرَاءُ ، وَلاَ يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ ، وَلاَ يَمَلُّهُ الأَتْقِيَاءُ ، وَلاَ يَخْلَقُ بِكَثْرَةِ الرَّدِّ ، وَلاَ تَنْقَضِي عَجَائِبُه” (سُنَن الدارمي 2/526 ومشكاة المصابيح ( 1/661 )

إن الآلاف المؤلفة من العلماء قد جندهم الله تعالي للعناية بهذا القرآن.. كتابة، وتفسيراً، ودرساً، وتعلماً، وتعليماًً مظهرين ما فيه من إخبار بالغيب، وهداية وتزكية بالغة، وأخلاق سامية، وأسرار لطيفة، ودلالات متنوعة، وخواص دقيقة، وإعجاز متعدد، وتشريع مُحدد، وفهم متجدد الخ.

وبعد..

فعلى المربين والمتربين وعبر الجلسات التربوية الدعوية وضع منهاج مستمر متصل الحلقات للتزكية والتربية، وتتبع أي سور الذكر الحكيم.. فرادى ومثنى، سورا منفردة، أو موضوعات متصلة عرضها القرآن الكريم.. بداية فاتحة الكتاب وحتى سورة الناس. إن من الأهمية بمكان اختيار الموضوع، ووضوحه، ولغته البسيطة والمباشرة والمعبرة، وغلبة الجانب العملي، ومراعاة معايير الاستيعاب، والحرص علي إيصال القيم/ الإيمانيات/ الأخلاق/ السلوكيات المراد تمثلها، وإعطاء الناشئ/ المتربي شيئا يراجع منه، ويذكره بالدرس المطلوب.

وبالمثال العام يتضح المقال: يقول تعالى:”كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ”( البقرة: 151)، ويقول جل شانه:”لقد من الله على المؤمنين إذ بَعَثَ فِيهم رَسُولاً مِن أنفسهم يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ” (آل عمران : 164)، ويقول عز من قائل:”هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ” (الجمعة : 2)…الآيات الثلاث تشير إلى المنهج التربوي الإسلامي الذي أنزله الخالق العظيم سبحانه على نبيه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.

إن كثيرا من الألفاظ القرآنية الكريمة تدُل وتؤكد أن الله سبحانه وتعالى – وهو الرب (وقد وردت لفظة رب نحو 84 مرة في القرآن الكريم) العظيم والخالق الكريم – هو الذي أرسل محمد صلى الله عليه وسلم ليكون معلماً ومُربياً للأُمة .

وكثيرة هي الألفاظ القرآنية تُشير إلى أن هذا الرسول صلى الله عليه وسلم إنسان مُرسلٌ من الله تعالى إلى أُمته ، وأنه لا يختلف عنهم في الجانب الإنساني فليس ملكَاً أو مخلوقاً من جنسٍ آخر ؛ وفي هذا إشارةٌ إلى أن هذه التربية التي جاء بها هذا النبي الكريم :” تربيةٌ إنسانية، وصالحةٌ تماماً لطبيعة الجنس البشري، وتتفق تماماً مع فطرته الإنسانية التي فُطر عليها” وهو ما يُشير إليه أحد الكتاب بقوله : ” لأن الرسول في حياته كإنسان يُوحى إليه من الله، يُمثل إنسانية هذه التربية”.

إن مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم هي التلاوة ، سبيلاً للبيان والإخبار والإعلام ولإقامة الحُجة، ووسيلةً لحفظ كتابه وآياته، إضافةً إلى التعبد لله تعالى بتلاوته . وهذا فيه بُعدٌ تربوي يُشير إلى أن ” الهدف من تلاوة الآيات هو غرس الولاء للإسلام بين المُتعلمين عقيدةً وسلوكاً، وإبراز شواهد الربوبية والإلوهية وتوحيدهما، وغرس الاتجاهات الإيمانية”.

ثم هي التزكية / التربية الإسلامية ..للعناية بالنفس ومحاسبتها، للارتقاء بجميع جوانبها (الروحية، والأخلاقية، والجسمية، والعقلية ) إلى أعلى المراتب وأرفع الدرجات. ولقد استعمل القرآن الكريم مصطلح “التزكية” قبل التعليم، لشموليتها لمعنى العملية التربوية الكاملة التي تُعنى بمختلف جوانب النفس البشرية، يُزكِّي قلوبهم ويُطهرها من أدناس الشرك والفجور والضلال؛ فإن النفوس تزكو إذا طهُرت من ذلك كله، ومن زكت نفسه فقد أفلح وربح، قال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) (الشمس: 9)، وقال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) (الأعلى: 14) (ابن رجب الحنبلي ، 1421هـ ، ص 168).

وهناك إعجازٌاً تربويٌا يبدو في تقديم التزكية علي التعليم ، فالعملية التربوية تسبق العملية التعليمية ، وأن حصول التزكية عند الإنسان يُسهم بدرجةٍ كبيرةٍ في تسهيل وتيسير وتمام عملية تعليمه .

ثمة وظيفة رسالية ثالثة هي التعليم : تأتي بعد أن تتم عمليتي التلاوة والتزكيه ، وبذلك يتم التعليم المقصود كأحسن ما يكون ، حيث يكون الإنسان مؤهلاً لاستيعاب المعارف والمبادئ والتشريعات التي يشتمل عليها القرآن الكريم والسُنة المطهرة” (نبيل السمالوطي ، 1406هـ ، ص 195).

جناحي العملية التربوية ..فكراً، (التلاوة)، وعملاً سلوكياً تطبيقياً (التزكية) أولاً ثم التعليم ثانياً.

تلكم التعبيرات القرآنية الثلاثة تتضمن جانبي العقل والنقل ، أو جانبي الغيب الذي لا يُناقش، وإنما هو محل الإيمان المُطلق لأن العقل البشري قاصرٌ عن فهمه؛ وهنا يُكتفى بتلاوة الآيات من المُتعلم أو مُتلقي التربية وهذا هو الجانب الأول. أما الجانب الثاني فهو الذي يتمثل في تعبير ” يُزكيهم ” و ” يُعلمهم ” فكلاهما يُشير إلى عمليةٍ بشريةٍ تتعلق ببناء السلوك وتشكيله وتغييره ، وتفسح المجال أمام العقل والملاحظة والتجريب ” (نبيل السمالوطي ، 1406هـ ، ص 198).

لقدْ وقف المسلِمون الأُول مِنْ سلف هذه الأُمَّة على مثل تلكم الدُرَر القرآنية ورسالته، فطبعوا طبائعهم وسلوكهم بمنهجه، وتعلَّموا مِنْ مأدبته ، وتأدَّبوا بأدبه؛ ففي الحديث: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مَأْدُبَةُ اللَّهِ ؛ فَتَعَلَّمُوا مِنْ مَأْدُبَتِهِ مَا اسْتَطَعْتُمْ .. إِنَّ هَذَا حَبْلُ اللَّهِ ، وَهُوَ النُّورُ الْمُبِينُ وَالشِّفَاءُ النَّافِعُ ، عُصِمَ مَنْ تَمَسَّكَ بِهِ، وَنَجَا مَنِ اتَّبَعَهُ، لاَ يَعْوَجُّ فَيُقَوَّمُ، وَلاَ يَزِيغُ فَيُسْتَعْتَبُ، وَلاَ تَنْقَضِي عَجَائِبُه}.[أَخْرَجَه الدارمي 2/525 وابن أبي شيبة 6/125 وعبد الرزاق 3/375 ].

ولِذَا فإنّ العرب المسلِمين السابقين في الإسلام أول مَنْ تأدَّبوا بأدب القرآن ، وإن استطعتَ أنْ تُعَبِّر بمَنْ رَبَّوْا أنفُسَهم وفْق منهج السماء عِنْدما تَمَسَّكوا بالكتاب والسُّنَّة فسادوا الدنيا وملؤا الأرض نوراً وعدلاً ، وعمروها بنشر راية التوحيد وإبادة ظلمات الكفر والشِّرْك والجاهلية والعداوة والبغضاء ، فأصبحوا بنعمة الله تعالى موحّدين إخواناً متحابين ، أقوالهم وأفعالهم وأخلاقهم متسقة ومستمدة مِنَ الكتاب والسُّنَّة .

Naser

نُشرت بواسطة

إدارة الموقع

إدارة الموقع

موقع تربوي يقدم تجربته في الحوار والإثراء المعرفي من عالم التطبيقات وعالم الواتساب الصغير إلى عالم المواقع وعالم الإثراء الكبير.