“الكتاب الذي لا ريب فيه” – 2

 

 

لقد كان للقرآن الكريم – وما زال وسيظل بإذن الله تعالى إلى قيام الساعة – الأثر الأقوى والأول في تقوية روابط الإيمان بالله عز وجل وترسيخ عقيدة التوحيد والدعوة إلى كل خلق فاضل وكريم والنهي عن رذائل الأخلاق ومساوئها، بدا ذلك واضحا عند نزول القرآن بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فأثر التأثير الإيماني والسلوكي في أخلاق العرب وعاداتهم وسلوكهم وعقيدتهم وكذا غير العرب في عصر الإسلام الأول وفي عصوره المتتالية حتى إذا وصلنا إلى عصرنا الحاضر تأكيدا لهذا الدور القرآني حينما يقدم الكثيرون من العلماء والمفكرين والباحثين على اعتناق الإسلام بعد وقوفهم على بعض الإعجاز العلمي للقرآن أو حتى مجرد الوقوف على ترجمة معاني القرآن الكريم .

 

لك أن تقف على أثر القرآن الكريم وتأثيره ووقْع تلاوته أو سماع بَعْض آياته على عقيدتهم وسلوكهم وأفعالهم. فهذا عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه الذي كان رأساً مِنْ رءوس الكفر يحارب كُلَّ مَنْ أَسْلَم، وعِنْدما عَلِم بإسلام أخته فاطمة وزَوْجِها سعيد بن زَيْد ـ رضي الله عنهما ـ ذهب غاضباً لِلانتقام مِنْهُمَا، ولَمَّـا دخل وجد معهما صحيفةً مِنَ القرآن فيها مِنْ أوَّل سورة طه حتى قوله تعالـى : (إنني أَنَا اللَّهُ لا إِلَـهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِى وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِى) (طه: 14)، فأَسْلَم مِنْ فوره، فكان الفاروق/ العادل/المُلهم] (الطبقات الكبرى 3/268).
وهذا سَعْد بن معاذ رضي الله عنه الذي كان مُشْرِكاً وعِنْدما عَلِم بقدوم مصعب ابن عمير رضي الله عنه قَبْل الهجرة لِلدعوة إلى الإسلام ذهب إليه ومعه حَرْبَتُه لِمَنْعِه وعِنْدما قرأ عَلَيْه مصعب رضي الله عنه قوله تعالى : (حم * وَالْكِتَـبِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَـهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُون) (الزخرف: 1 – 3 )، فأَسْلَم في حِينه رضي الله عنه وأَسْلَم قومُه بإسلامه. ](أنظر: حياة الصحابة 1/170, 171 وسيرة ابن هشام 2/52 ، 53 ).

 

السؤال الذي يطرح نفسه تربويا.. ما مدي تأثير المتربين بهذا القرآن كما تأثر به عمر وسعد وغيرهما رضي الله عنهم أجمعين؟؟

ويمكنك الوقوف علي الأثر التربوي الواسع لِلقرآن الكريم في جماعة العرب الأُول مِنْ خلال شهادة أحد العرب وأشرافهم ـ ألا وهو جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ـ التي ألقاها أمام النجاشي، وفيها يقول رضي الله عنه :” أَيُّهَا الْمَلِكُ .. كُنَّا قَوْماً أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ ؛ نَعْبُدُ الأَصْنَامَ وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ وَنَقْطَعُ الأَرْحَامَ وَنُسِيءُ الْجِوَارَ وَيَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ ، فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْنَا رَسُولاً مِنَّا نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ ، فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنَ الْحِجَارَةِ وَالأَوْثَانِ ، وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَحُسْنِ الْجِوَارِ وَالْكَفِّ عَنِ الْمَحَـارِمِ وَالدِّمَاءِ ، وَنَهَانَا عَنِ الْفَوَاحِشِ وَقَوْلِ الزُّورِ وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ وَقَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ تَعَالَى وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَأَمَرَنَا بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَام”.(راجع البداية والنهاية 4/182 ، 183 )، ويَتَّضِح أنّ جعفراً رضي الله عنه حَصَر أهمّ الأخلاق الفاسدة عِنْد العرب ومن ثم العدول عنها.. عقيدة وعبادة تزكية وتربية وتعلما وتعليما.

 

لم يقتصر ذلك الأثر العظيم للقرآن الكريم علي سلوك العرب وحدهم بل تجاوزهم لغَيْر العرب، فالنجاشي الذي كان مَلِكاً لِلحبشة ورأساً مِن رءوس النصرانية، عِنْدما قرأ عَلَيْه جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه صدراً مِنْ سورة مريم بَكَى حتى أخضلَتْ لِحْيَته ، وبكت أساقفتُه حتى أخضلَتْ لِحاهم حين سمعوا ما تلا عليهم ، ثُمّ قال لهم النجاشي رضي الله عنه : إِنَّ هَذَا وَالَّذِي جَاءَ بِهِ عِيسَى عليه السلام لَيَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَة [“سيرة ابن هشام 1/349]

 

لا شك إن بلدان جنوب شَرْق آسيا (وصولا للفيليبين) لَمْ تُفْتَحْ بسيف ولا جهاد؛ وإنَّمَا دَخَلَهَا الإسلام عَنْ طريق التجار المسلِمين الذين تعاملوا مع تجار هذه البلاد فلمسوا في سلوكهم وأخلاقهم ما يَدفعهم إلى المسارَعة إلى اعتناق هذا الدين الذي يقوم ويعتمد على الكِتَاب والسُّنَّة (حاضر العالَم الإسلامي 1/339). وانتشار اِلإسلام في شتّى بقاع المعمورة ودخول الآلاف المؤلفة من غير المسلمين (في دُوَل أوروبا والأمريكيتيْن واستراليا) في الإسلام لدليل علي امتداد هدايات القرآن الكريم، هذا الكتاب الذي لا ريب فيه، وتلك السُّنَّة النبوية المطهرة.

 

 

* اقتراحات عملية عامة:
– الإكثار من تأسيس “مجالس القرآن” بشروطها الربانية، وضوابطها المنهجية؛ قصد مدارسة كتاب الله – جل جلاله – وتدبر آياته، وتلقي رسالاته الإيمانية، واكتشاف الْهُدَى المنهاجي الكامن فيها، ثم تَبَيُّنِ مسلك التخلق بأخلاقه الربانية، وتشجيع تأسيس تلك المجالس ونشرها في كل منطقة وقطاع، والتعاون على تأطيرها، ومساعدتها علميا ومنهجيا. قال جل جلاله: ﴿وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ﴾[آل عمران: 79]. وقال سبحانه: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾[محمد: 24]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ؛ إِلاَّ نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمْ الْمَلاَئِكَةُ، وَذَكَرَهُمْ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ! وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ!)(جزء حديث أخرجه مسلم).

 
إن الوحي وهداياته المتعددة لا يصل إلى المتربين إلا بعد أن تشتعل بحرارته قلوبُ الدعاة التربويين، وتلتهب هي ذاتها بحقائقه، وتتوهج بخطابه! ولك أن تتدبر معاناة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ومكابدته للقرآن العظيم كيف كانت! وليس عبثا أن يُرْسِلَ – صلى الله عليه وسلم – هذا الشعورَ العميقَ بين يدي أصحابه الكرام، قائلا لهم: (شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا!)(رواه الترمذي والحاكم، وصححه الألباني في صحيح الجامع). فينبغي أن يتحلي المربي/المعلم بالقدوة الحسنة، والرحمة، والعلم والفهم، والمرونة مع المتربين/ الناشئين لحسن التأثير فيهم، وحسن التواصل مع أقرانه من المربين/ المعلمين ومع الآباء، ومن ثم نجاح مهمتهم جميعاً.

 
– على المربين تقريب معاني القرآن الكريم التربوية للمتربين الناشئين بوسائل ميسرة، ومبسطة، وعملية، والاستعانة بوسائل تطبيقية تمكن من ترسيخ واستيعاب المفاهيم القرآنية، والقيم الإيمانية والتربوية والأخلاقية والإنسانية. ليصبح القرآن الكريم منهج حياة، يملأ بهداياته كياناتهم، ويوجه بأخلاقه سلوكياتهم، ويضبط بتشريعاته واقعهم، وينير بإرشاداته طرقهم، ويُقوم بمرجعيته أفعالهم. ولتحقيق ذلك هناك أطراً ينبغي مراعاتها منها: ما يتعلق بالناشئ: فيراعي عمره، ومحيطه الاجتماعي والثقافي، وميوله، وذكاءه، وقدراته ومهاراته الخ.
ولإيصال المعني أو المفهوم أو القيمة أو الخلق أو السلوك الذي قد تشي به الآية أو الكلمة القرآنية يمكن تحضير جدول يحدد “الآية/ الكلمة”، والوسائل المقترحة وهي متعددة ومتنوعة منها: الإلقاء والدرس، والحوار، وحلقة النقاش، والقصة، والرحلة، والمسرح والتمثيل الإبداعي، والفيلم العلمي والوثائقي، والمحاضرة ، والأناشيد، وإلقاء الشعر، والمقال العلمي، والواجبات العملية، والصور، والأمثال الخ. وأخيرا وليس آخرا يأتي التعليق علي هذه الوسيلة (أو الوسائل)، ثم الدروس المستفادة، والواجبات والأنشطة العملية.

 
– ومن الأهداف الأساسية إيجاد مناخ عام يساعد علي أفضل الفرص للتحصيل والتعلم والتطبيق ويتميز هذا المناخ: ببث مشاعر الابتهاج، والإكرام والثقة، والمشاركة، واعتماد الأمثلة الواقعية، واللغة السهلة، وضوح الموضوع، والتنوع. مع الميل إلي الخروج من قاعات الدرس إلي الأماكن المفتوحة، وتنمية التفاعل الإيجابي بين المتربين الناشئين ومن يُربيهم ويُعلميهم.

– الاجتهاد في التعريف برسالات “الْهُدَى التربوي” للقرآن الكريم، عِلْماً مستقلا من علوم القرآن، وأصلاً من أصول فقه الدعوة. ويختص بما تَحَصَّلَ للقلب بالتدبر للآيات، من رسالات إيمانية، وقواعد منهاجية، تُوَضِّحُ خطوات السير القلبي إلى الله.. ديناً ودعوةً، وتَعَرُّفاً إليه تعالى وتعريفاً، وتبين مسلك التخلق بأخلاق القرآن، وبيان كيفيته العملية؛ من أجل بناء الشخصية الإسلامية، في كل ما يلزمها من معانٍ تعبدية وعمرانية.

 
ولا يغيب عن البال أننا بحاجة لبناء أجيال ناجحة من الناشئين الصالحين المُصلحين، الذين يعتبرون القرآن الكريم ـ كما كان شأن رسول الله صلي الله عليه وسلم، وصحابته الأبرار الأخيارـ منهاج حياتهم.. لا يكتفون بالتبرك به، بل التحرك به، ولا يختزلونه في عبادة لفظية، بل هو هداية يومية، ولا يقتصرون علي حفظه واستظهاره، بل فهمه وتدبره وتطبيقه والإستهداء به، تصديقا بقوله تعالي :”إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم..”(الإسراء: 9).

 هي إذن دعوة إلى إعادة الاعتبار لمركزية القرآن الكريم في الدعوة والتربية والتكوين، وفي تلقي حقائق الإيمان، واستنباط أصول العمل التربوي الدعوي وقواعده.
إن طبيعة المرض اليوم في الحياة الإسلامية العامة والخاصة، أعمق من أن تعالجه يد بشرية قاصرة، لا خبرة لها ولا اختصاص! إن اختلال سر الفطرة في الإنسان اليوم في حاجة ماسة إلى تدخل الرحمة الإلهية، بما تملك من معاني الربوبية وشؤونها العظمى، المحيطة بأسرار الملك والملكوت! فلا يستطيع إصلاح الفطرة البشرية اليوم، وإعادة تسويتها على أصل خلقتها، إلا الذي فطرها أول مرة! الرب العليم بطبيعة تكوينها، وخصائص تركيبها؛ بما خلق فيها من لطائف وأسرار! فهو وحده الخالق، وهو وحده من يملك حق الصيانة والرعاية. (اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ)(الزمر: 62).

وبعد .. صفوة القول: كانت هذه إطلالة سريعة علي بعض الآيات القرآنية وملامحها المنهجية التربوية الإسلامية التي جاء بها معلم الإنسانية البشرية نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم من عند الخالق العظيم. إن القرآن الكريم لزاخرٌ في آياته البينات بالكثير من الدروس والمضامين والمعاني والمبادئ والقيم التربوية التي تكفل للإنسانية جمعاء الخير والسعادة في كل زمانٍ وأي مكان متى تم استنباطها والعمل بها في واقع الحياة. وليس بصحيح بحال من الأحوال أن يغفل كُلية العاملون في حقل التربية عن هذا القرآن الكريم، أو أن ييمم دعاتها، وطلبتها، أساتذتها، وتلامذتها، غرباً وشرقاً، يتسولون أسس وركائز ونظريات ومناهج وطرق للتربية والتنشئة والتكوين، قبل النهل من “الكتاب الذي لا ريب فيه”، وإذا ما نهلوا منه أغناهم فلم يعودوا يطلبوا من غيره المزيد. إن القرآن الكريم، الكتاب الاسمي، والأفق الأرحب والمنهل العذب والمورد الخصب والشجر المورق والثمر المستطاب لمن أراد التربية الدعوية وزيادة، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

Naser

نُشرت بواسطة

إدارة الموقع

إدارة الموقع

موقع تربوي يقدم تجربته في الحوار والإثراء المعرفي من عالم التطبيقات وعالم الواتساب الصغير إلى عالم المواقع وعالم الإثراء الكبير.