لكن يبرز سؤال: كيف توجه السلوكيات البسيطة، والتي مبناها علي ردود الأفعال إلي عقل وتفكير وتأمل ولغة ومثاقفة؟
في هذا الصدد يتجاوز باحثون محدثون[1] نظرية”نعوم تشومسكي” القائلة: بان مهارات اللغة أحد مكونات عتاد المخ الموروث أو أنها “حتمية بيولوجية”، لكن الدراسات الحديثة تؤكد علي العلاقات العاطفية والانفعالية بين الأبناء وبيئتهم وتربيتهم، وكونهاـ أي الانفعالات والعواطف ـ لهما الدور الهام الذي تتولد عنه القدرة علي ابتكار وإبداع الرموز وعلي التفكير. فالخبرات الحسية والذاتية وتحولاتهما المتعاقبة ـ والتي قيل أنها عدو العقل والمنطق ـ تغدو في هذه الدراسات الجديدة أساسا لكل من الفكر المنطقي التأملى الإبداعي الابتكاري، وأن هذه القدرات ليست جزءا من عتاد المخ البشري الوراثي.
لذلك فمن الخطوات الأولي الهامة لتنمية العقل المتميز تهيئة وتوفير الظروف الأسرية والبيئية والتربوية التي يسودها الاستقرار النفسي والاجتماعي، والهدوء والاطمئنان، فالتميز لا ينمو إلا في بيئة ذلك شأنها. كذلك الابتعاد عن التشويش والأجواء الانفعالية المشحونة والمُعيقة لملكات التركيز والتأمل والتدبر فيضيع الاستيعاب والاستقلال الفكري:”قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا..”(سبأ:46).
فعمليات التربية والتنشئة ـ المباشرة وغير المباشرة ـ التي تتعهد أبنائنا بالحدب والدفء والرعاية، وتنمية القدرات ، وإذكاء المواهب، والإجابة الدائمة والمناسبة عن أسئلتهم، تجعلهم يُحسنون القيام ـ علي اختلاف أشكاله ـ بعمليات التفكير ليصلوا لنتائج صحيحة، تلك النتائج التي تتفادى نسق الأفكار السلبي، وزيف وتزييف العقل، لتصل إلي الحقيقة والتميز الذي يعكس الاستقلالية والمسؤولية.
كذلك ينبغي توفير الوقت اللازم، والتفاعل التربوي..معرفياً ووجدانياً وسلوكيا مهارياًـ معهم، ومشاركتهم هواياتهم المناسبة وتنميتها.
* أمور ووسائل تربوية تعليمية وتثقيفية هامة في تعهد القدرات الإبداعية لديهم:
ينبغي متابعة أنشطتهم التعليمية ومدي تحصيلهم الدراسي، واستثمار وتوجيه أفكارهم، وتوجيههم لحسن التحكم في سلوكياتهم. والولد ابن بيئته وتربيته، فإحاطتهم بمناخ من سماته: النظام والانضباط والالتزام والمرونة والبساطة والقدوة والتوافق والتوسط والمشورة والمناقشة والتحليل والاستنتاج، وتنشئتهم على قدر كبير من الحرية الشخصية المنضبطة (عطف وحزم)، والاستقلالية والمبادأة وعدم الأعتمادية، وتغذية مرتجعة Feed back لأفكارهم لتتراكم وتتلاقح خبراتهم.. كفيل ببناء قدرات أعلي من الفهم والتأليف والتركيب والابتكار، وهل الإبداع والذوات المبدعة إلا حصيلة تلكم القدرات؟.
من المعلوم أن الحواس هي مُدخلات العلم والمعرفة، وهى المسئولة عن تشكيل المدركات والأفكار وتنشيط عمليات التفكير والتدبر، الذي يُمكّن الفرد من إصدار حكم أو ممارسة سلوك، وعليه تقع مسئولية توجيه حواسه لهذا أو ذاك:”ولا تقف ما ليس لك به علمٌ، إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا”(الإسراء: 36).
جملة القول: الدليل والبرهان الذي يُقنع، والعلم والمعرفة التي تُشبع طريق آكد للعقل الذي يُبدع. وعمليات التفكير وتنمية قدرات ومهارات العقل المُبدع التي تشمل كل وظائف العقل وخبراته المكتسبة من تعقل وتأويل وتدبر وتفقه وتفكر وتذكر ونظر وشهود وإبصار وحكمة.. هي مسئولية فردية وأسرية ومجتمعية مشتركة، وذلك من خلال مناخ أسرى واجتماعي وتعليمي وإعلامي، وعبر مناهج وأساليب ومقررات تربوية وعلمية وتعليمية لتنمية المواهب عموماً، وقدرات التفكير المختلفة خصوصا، يقول الله تعالى:(كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون، في الدنيا والآخرة) البقرة:219-220، فقدرات التفكير كامنة في الإنسان، وهى تتفاوت في الأفراد والمجتمعات قوة وضعفا، فعدم تنميتها يجعل الأفراد والمجتمعات يعجزان عن النهوض بهذه “الفريضة”، فتتقاذفهما الأحداث والصعوبات دون إيجاد حلول لها. فلمواجهة تحديات عصر العولمة والمعلومات.. يبقي التعاون بين مؤسساتنا المُختصة لإحداث تنمية مستدامة لمهارات التفكير الإبتكاري، وإيجاد العقل المُتميز لدى أبنائنا المتربين.
المصادر والمراجع:
– عباس محمود العقاد: التفكير فريضة إسلامية، الهيئة العامة للكتاب 1998م، ص:10-11،
– د. جون لانجرير: تعليم الطلاب مهارات التفكير، على الشبكة الدولية للمعلومات.
– ييترل بينسول وأخرون: “أبناؤنا وأسباب النجاح”، ترجمة على عفيفى، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مكتبة الأسرة 2003م.
– د. ماجد عرسان الكيلانى، مقومات الشخصية المسلمة، كتاب الأمة، العدد: 29، شوال 1411هـ، ص:52
[1] ) أمثال “ستانلي أي جرينبان ، وستيورات جي شانكر”في كتابهم ” الفكرة الأولي”، انظر عرضا ًله في مجلة العربي: 579، فبراير 2007 م، ص 188ـ 191.
التعليقات مغلقة.
جزاك الله خيرا .. فعلا نظرية تستحق التأمل .. وإن كنت أظن أن تنزيلها على ( البيئة الإبداعية فقط ) يحد من تأثيرها ..
أقصد : أن المعاناة أيضا تخلق الإبداع وكم نقرأ لروائيين روس أبدعوا إبداعا لنظرا لمعاناتهم الشديدة تحت الشيوعية .
وكم نرى الأذكياء والمبدعون يخرجون من بيئات فقيرة وأحوال متواضعة ..
نعم ، أدرك أن النظرية تتحدث عن الذي يمكن أن نفعله من أجل تنمية قدرات أبنائنا .. ولكن ما سبق كان مجرد تنبيه لهدفين :
1- حتى لا نحصر المؤثرات الوجدانية والعلاقات العاطفية في الجانب الإيجابي فقط .
2- حتى ندرك أننا مهما كانت البيئة التي نعيشها لا نزال قادرين على الإبداع والتألق ..
أكرر شكري لك على هذا الموضوع الرائق د. ناصر
لا حرمنا الله تعالي من تعليقكم الثري، الهادف العميق أخي أ./ بدر
معك كل الحق في أنه ” مهما كانت البيئة المُعاشة، بايجابياتها وسلبياتها، لا يزال المرء، بعون الله وفضله، قادرا علي الإبداع والتميز” طالما لديه الإرادة، وعزيمة الإنجاز، ووضوح الهدف مع التوجيه والإرشاد والصقل.
خالص شكري لتواصلكم ودراستكم للموضوع
والسلام
ناصر سنه