الحمد لله رب العالمين، وصلاة وسلاماً دائمين متلازمين علي رسولنا محمد صلي الله عليه وسلم، خيرُ من دعا، وخير من رَبي، وبعد:
من المعلوم أن رؤية الإنسان وكينونته وسلوكه محكوم بتنشئته وتربيته ـ (رَبّ) الابن: وَليه وتعهده بما يغذيه وينميه ويؤدبه ويرقيه في مراتب التدين ـ واكتساب مهاراته، وسبل دعوته ـ(دعا) بالشيء، دعواًً، ودعوة، ودعاء: طلب وتطلب إحضاره، لاختيار مواقفه، واستحضار أدواته في التعامل مع القضايا وتقويمها والحكم عليها وفق دين الإسلام القويم.. شرائع وشعائر، عبادات ومعاملات الخ. فنحن حصاد تربيتنا، وعندما تتغير بنية التربية نتغير نحن أيضاً. ومن غير شك أيضاً أن كل أنواع التربية ونظمها ونظرياتها وفلسفاتها، تستند إلي عقائد” أيدلوجيات” وعلينا أن نرسخ ما يناسبنا وفق ديننا الحنيف كي لا يحدث ذلك “الفصام النكد”.
وهذه العملية التربوية الدعوية الإسلامية لها خصائص وسمات، وعناصر وأطراف، وآليات ووسائل، وأهداف وغايات، فمن خصائصها أن:
– القرآن الكريم والسنة النبوية المصدر الأساس لها: فتعّميق صلة القلوب بربها.. عقيدة، وتوثيق عري علاقة العبد بخالقة .. معرفة، وإيماناً، وحباً وطاعة، وسلوكه ومعاملة نحو نفسه وإخوانه والآخرين لن يتأتي إلا بجعل القرآن الكريم، والسنة النبوية الصحيحة (الرسول الأنموذج العملي/ القدوة، كان خلقه القرآن) المصدر الأساس للتربية. فهما منهج الإصلاح والصلاح، ومحور الهداية والاهتداء للتي هي أقوم. لقد دأب رسولنا ” محمد” صلى الله عليه وسلم في منهاجه التربوي الدعوي.. على ترسيخ ذلك الارتباط بالقرآن وسنته الشريفة، يقول صلي الله عليه وسلم: (لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء، فيخبروكم بحق، فتكذّبوا به، أو باطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني) (أخرجه أحمد ، وابن أبي شيبة، والبزار، من حديث جابر، أن عمر، أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب ، أصابه من بعض أهل الكتاب، فقرأه عليه، فغضب صلي الله عليه وسلم.. الحديث). وقال صلي الله عليه وسلم:”…فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فغن كل بدعة ضلالة) (أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه). فالمصدرية الوحيدة، حينما تكون للقرآن والسنة، في المجال التربوي الدعوي، تضمن السلامة من كثير من الأمراض التربوية وعللها.
– ربانية، تنقية وإخلاص القصد التربوي ترتكز على عملية إيقاظ الإيمان، وعلى اكتساب مستمر للخبرات الإيمانية التي تؤثر في الوجدان والسلوك، وعماد التربية الربانية هو القلب الحي الموصول بالله تبارك وتعالى، الموقن بلقائه وحسابه، الراجي رحمته، الخائف من عقابه الخ. قال الحسن البصري،في علم الحديث: (لقد طلب أقوام هذا العلم ،ما أردوا به الله وما عنده ،فما زال بهم حتى أرادوا به الله وما عنده). وقال سفيان الثوري: ( كنا نطلب العلم للدنيا ، فجرنا إلى الآخرة). وعن معمر قال : ( إن الرجل ليطلب العلم لغير الله، فيأبى عليه العلم، حتى يكون لله). ولذلك فقد كان طلب الحديث عندهم، طلباً لتطبيقه أيضاً.
– شاملة متكاملة متوازنة، ومستمرة: فالتربية الشاملة المتكاملة المتوازن، والمستمرة نابعةٌ من تكامل منهج الإسلام في إمداد الإنسان المسلم بكل الجوانب اللازمة لاستمرار صلاح حياته، وكذلك نابعةٌ من إيماننا بشمول المنهج الإسلامي وتكامله وتوازنه، فلا يُرضى بالإسلام إلا شاملاً كاملاً، وكذلك تناسق التكوين واتزانه واستمراره .. معرفةً وتصورًا عقليًّا وروحًا ووجدانًا قلبيًّا وتصرفًا وسلوكًا حركيًّا.
– اعتماد منهج التكوين، دون منهج التلقين: لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم، يعتمد شيئاً غير القرآن، وسنته المطهرة ، باعتبارها تفسيراً له. وكان يوجه الصحابة إلى اكتشاف قدراتهم الذاتية، ومواهبهم الفطرية ، وتنميتها بالعمل قائلاً: (اعملوا فكلُُ ميسرُُ لما خُلق له )، ويقرُّ المختلفين من أصحابه، على الاجتهاد ، المصيب منهم والمخطئ، على السواء كما هو معلوم في حديث بني قريظة المشهور. مربياً إياهم ومشجعاً لهم على التزام العقلية الاجتهادية المبادرة وفق شروطها. وكثيرا ما حث ـ صلي الله عليه وسلم ـ أصحابه علي إثارة السؤال أولاً، حتى إذا سُئلوا، أَعَمْلُوا فِكْرَهُم، محاولين التوصل إلى الإجابة، فإما أجابوا، وإما عجزوا، ويكونون حينئذ، قد تلقوا درساً في ضرورة التفكير الشخصي، والتنشيط العقلي، في الفهم والاستنباط ، ثم يقرهم على جوابهم ، أو يصحح لهم بإجابته صلى الله عليه وسلم . ونماذج هذا الأسلوب كثيرة جداً ، منها قوله صلى الله عليه وسلم: (أتدرون ما الغيبة؟ )، وقوله أيضاً : (أتدرون مَن المُفلس؟ ) إلخ.
– إسنادها العمل/ الفعل التربوي لمرب ذو خصائص:
معرفية: وتشمل خلفية المربي المهنية وخبراته التربوية السابقة وفعاليته الدعوية والتربوية, وتشمل أيضًا اتساع ثقافة المربي وتنوعها ومعرفته للمسائل التي تقع خارج إطار تخصصه خاصة في المجالات الاجتماعية والأدبية, وتشمل أيضًا المعرفة الواسعة من المربي بالمتربي كمعرفة اسمه وبعض خصائصه ودراسته وهواياته وغيرها من المعلومات المفيدة عن المتربي.
– أسلوبية: وتشمل مهارة المربي في استخدام الأساليب المباشرة وغير المباشرة في التربية والتعليم وقدرته على استخدام المقدمات والمداخل والأساليب التمهيدية عند نقل المعلومات والخبرات للمتربي.
– وجدانية: وتشمل بعض الصفات التي يجب أن يتحلى بها المربي ليكون قدوة ومؤثرا في المتربي وهي الإخلاص والعدل بين المتربين والأمانة في التعامل معهم والجود بالوقت والمال والنفس والرحمة على الناس كافة وعلى المتربين أكثر.
– اتصالية: وتشمل ثلاث خصال وهي المرونة والتي من خلالها يستطيع المربي تقدير المواقف والتعامل معه في حدود الاستطاعة ثم التوازن الاتصالي وعناية المربي بحسن الخطاب والحوار مع المتربي ثم القرب من المتربين والجلوس معهم واستقبالهم.
-التعلق بمنهج وسلوكيات التربية لا بشخوصها:
إنها قلوب تعيش في الأرض، لكنها تتغذى بنور السماء، وكان حضور الرسول – صلى الله عليه وسلم- في ذلك، حضور المربي، الذي يبين ويعمق ويربي ويصوغ نماذج حية تجسم الإسلام: (لا تُطْرُوني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد ، فقولوا عبد الله ورسوله). ما صدر من عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – يوم وفاة النبي – صلى الله عليه وسلم-، حيث قال : (والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وليبعثنه الله ، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم ) فقال أبو بكر رضي الله عنه: (أيها الحالف على رسلك!) فلما تكلم أبو بكر جلس عمر ، فحمد الله، أبو بكر، وأثنى عليه ، وقال: (ألا من كان يعبد محمداً، فإن محمداً قد مات ،ومن كان يعبد الله، فإن الله حي لا يموت) . وقال : (إنك ميّتُُ وإنهم ميّتُون ) (الزمر:30).
– اهتمامها بالقدوة، وتجسيد القيم السماوية في الفعل الإنساني للوصول للتي هي أقوم. إنما يتحقق ذلك من خلال عزمات البشر في العلم والتعلم، والتزكية والتربية، والعبادة والدعاء، والمجاهدة والاجتهاد، والصبر على البلاء، والوقاية من التدسية، واحتمال الشدائد، والثبات على الحق، والرجوع عن الباطل، وشيوع المناصحة في العلاقات الفردية، والشورى في الحكم، واعتماد الخبرة والتخصص في العلم، وممانعة الشهوات والرغائب، وعدم الخلط بين الأمنيات والإمكانيات في تحقيق الأهداف، وتنمية المهارات، وتحقيق الرؤية الإسلامية في مجالات الحياة، والدلالة بالفعل الملتزم بالشرع على واقعية القيم الإسلامية وإمكانية تجسيدها في حياة الناس، والعمل على اكتساب المهارات اللازمة لحمل هذه الأفكار، وترجمتها إلى أعمال وأفعال(راجع عمر عبيد حسنة في تقديمه لكتاب: “مهارات التربية الإسلامية” (العدد 106) من سلسلة كتاب الأمة الصادرة في قطر).
– التكوين المتدرج، والتخول بالموعظة : منهج تربوي وتعليمي عام، ويطبق ـ وقتاً وعدداً ومنهاجاً وتفقهاً ودراية، وتعلماً وتعليماً الخ، وفق نوعية ومراحل المدعوين. فقد سبق عن أبي وائل شقيق ابن سلمة، قال: (كان ابن مسعود رضي الله عنه، يذكرنا في كل خميس مرة فقال رجل: يا أبا عبد الرحمن ،لوددت أنك ذكرتنا كل يوم، فقال : أما إنه يمنعني من ذلك، أني أكره أن أملكم ، وإني أتخولكم بالموعظة ،كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بها مخافة السآمة علينا. قال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: (تفقهوا قبل أن تسودوا)، ومر علي بن أبي طالب ،رضي الله عنه بقاص ،أي واعظ، فقال له: (أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال : لا . قال: هلكت ،وأهلكت). وكان التعليم الذي قام به الصحابة، ذا مضمون تربوي مقصود.
التعليقات مغلقة.
جزاكم الله خيرا
رزقنا الله تعالي الإخلاص في القول والعمل