الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ..
التربية الدعوية الإسلامية ترسم منهجاً راقياً في سبيل تربية الإنسان تربية شاملة متكاملة ؛ كي ينهض ويقوم بما يجب أن يقوم به .
ففي سبيل الغاية يقول الحق تبارك وتعالى: “وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ” (الذاريات:56 ) وفي سبيل الطريقة يقول تعالى: “وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ” (الأنعام:153)
للمربي أو المشرف دور تربوي دعوي كبير وهام في تحقيق صفات التعبد قلبا وقالباً في المتربين ، فهو قدوة وأنموذج يُحتذى يسعي بكل السبل .. عملاً وتوجيهاً ونصحاً وموعظة وتوفيراً للجو التربوي التعبدي المناسب والمعايشة اللصيقة التي تُسهل وتيسر سبل التعبد الحق لله تعالى .
التربية التعبدية : أن تربط المتربي بوسائل وسبل العبادة والتعبد لله تعالى، لتحقيق وتمثل هذا الدين إنسانا حيا يمشي علي الأرض .. عقيدة وعبادة، وأخلاق ومعاملات .
إن ميدان التربية التعبدية ميدان واسع لا ينحصر عند حدود معينة. ولهذا فإن عندما كان يبعث أحداً من صحابته لتعليم الناس أو دعوتهم كان يرشده إلى الرسول الأسلوب الأمثل، الذي يسهل للمتعلم تعلم الشيء بمهارة عالية وإتقان ؛ فلا ينتقل إلى موضوع حتى يتأكد أن المتعلم أتقن الموضوع الذي قبله، كما جاء عنه عندما وجه معاذاً إلى اليمن: «إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ».
إن تشبع قلوب وعقول المتربين بالإيمان والإخلاص والطاعة والعبادة لله تعالي، وسمو نفوسهم في أجواء من الطهر والروحانية لهدف كبير يتم السعي لتحقيقه عبر العديد من الوسائل والسبل :
– حسن استيعاب المتربي ليلتحق بالجلسة التربوية عن استحقاق وجدارة ودافعية واستعداد وإرادة. مع إسباغ الاهتمام بالمتربي.. صحبة وتعرفا وترغيبا وتعريفا لتحقيق أعلى درجات التفاهم والتواصل .
– إطلاع لا بأس به على خصائص العملية التربوية وما له علاقة بها من وسائل ومناهج ومعرفة بأحوال النفوس .
– القدوة وعدم التناقض بين القول والفعل، فالتربية “بالحال أصدق أثراً من التربية بالمقال”.
– حسن إنزال البرنامج التربوي التعبدي وفق خصوصيات المتربين، واعتبار الجلسة وسيلة تعبدية ووسيلة وصل بين العبد وربه. وترتيب جيد لمواعيد تلكم الجلسات والحرص علي تنفيذ ما هو مقرر تعبديا.
-إرادة قوية وانضباط كبير .. فتأخر المربي وعدم اهتمامه وتراخيه في أداء الواجبات يقتل الحماس في المتربين وتبرد إرادتهم ويتلاشى انضباطهم وتتشكل سلوكياتهم على نفس الشاكلة .
– من مهام المربي : “التزكية والتحلية” ويقصد بالتزكية أن ثمة صفات حميدة في المتربي يتم السعي لتنميتها، أما التحلية فثمة خلالا هو لا يحملها وبالتالي ما على العملية التربوية إلا أن تعمل جاهدة حتى يتحلى بها .
التدرج في ترسيخ صفة التعبد في المتربي :
- تعلم الإيمان، والربط التعبدي الوثيق بالقرآن .. تلاوة وتدبرا وتطبيقا لأوامره ونواهيه ..
عن "جندب بن عبد الله رضي الله عنه يقول : "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن
فتيان حزاورة "أي قاربنا البلوغ" فتعلّمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن،
ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانا"(رواه ابن ماجة).
وتستوقفك تلكم الأسس التربوية الإيمانية والعقدية والتعليمية الباهرة لرسولنا
محمد - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس رضي الله عنهما يقول :
كنت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما فقال: (يا غلام إني أعلمك كلمات؛ أحفظ الله يحفظك
احفظ الله تجده تُجاهك إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك
بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك
إلا بشيء قد كتبه الله عليك رُفعت الأقلامُ وجفّت الصحف"(الترمذي ج4/ص667)
فتأمل كيف أن رسول الله يتعامل مع غلام من الغلمان فيغرس فيه هذه الأسس ،
فكان "ابن عباس" رضي الله عنهما في الأمة ما كان .
– ثمة ركائز للتأديب، عن علي – رضي الله عنه – قال، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -:” أدِّبوا أولادكم على ثلاث خصال : حبِّ نبيِّكم وحبِّ آلِ بيته وتلاوة القرآن فإنَّ حملة القرآن في ظلِّ عرش الله يوم لا ظلَّ إلا ظلَّه مع أنبيائه وأصفيائه”. (رواه الطبراني).
- تعريفه إحكام الحلال والحرام: أخرج ابن جرير، ابن المنذر من حديث ابن عباس رضي الله عنهما انه قال :
" اعملوا بطاعة الله، واتقوا معاصي الله، ومروا أولادكم بامتثال الأوامر
واجتناب النواهي فذلك وقاية لهم ولكم من النار".
– يوجه المربي ويعلم ويربي أبنائه علي أداء العبادات بشكلٍ سليم، وفق أركانها، وواجباتها، وسننها المشروعة. فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: «..َدَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى، فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ وَقَالَ: ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ، فَرَجَعَ يُصَلِّي كَمَا صَلَّى، فَقَالَ: ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تصل ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ تُصَلِّ، ثَلاثًا.. فَقَالَ:
وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أُحْسِنُ غَيْرَهُ، فَعَلِّمْنِي.. فَقَالَ: إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاةِ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، وَافْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلاتِكَ كُلِّهَا”.
إن إتقان المتعلم لمهارة أداء الصلاة بشكل سليم هي في الغالب مهارة عملية، ولكنها في الوقت ذاته تحتاج من المتعلم أن يلم بالصلاة بشكل تام ، بحيث أن يكون فيها ملماً بما يتلوه من قرآن ويتلوه من ذكر على الصفة المشروعة .
وهذا بمثابة الإلمام بالمهارات العقلية ، وفي الوقت ذاته فإنه يجب أن يلم بالصلاة كمظهر اجتماعي عظيم، وأن الإسلام أوجب صلاة الجماعة، ورتب لها الكيفية اللازمة التي تصح عندها.
وما يقال عن الصلاة يقال أيضاً عن كل أداءٍ يتعلمه المتعلم في إطار التربية الإسلامية.
– علي المربي ترسيخ ارتباط المتربين الدائم ببيوت الله فهي من علامات الإيمان وله وظائفه الجوهرية التي لا يمكن الاستغناء عنها بحال من الأحوال، يقول تعالي:” إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (التوية:18)، ويقول صلي الله عليه وسلم: “إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان” (الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري).
لعل أقل ما في هذا المسجد الصلاة .. أكثر ما فيه العلم ، وهو منارة وجامعة .. ومكان التربية والتنشئة .. مكان لفهم كتاب الله، ولحل قضايا المسلمين، مكان للقضاء للشورى. هذا بيت الله.. يجب أن يُشدَّ المتربين الرحال إليه.
– دوام ذكر الله تعالي: “فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (النساء:103)، ويقول تعالي: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا، وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (الأحزاب:41-42).
– الحرص علي النوافل .. صلاة وصوما الخ : “وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا” (الإسراء: 79).
– التقوي، ودوام مراقبة لله تعالى : “الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ، وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (الشعراء:218-220).
مع سعي المربي لإيصال أبنائه لدرجة الإحسان:“الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فهو يراك” (رواه الشيخان).
– تعويد المتربين علي التخلي عن كل الصفات السلبية التي تعيق الترقي التعبدي : قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للصحابة يدخل عليكم من هذا الباب رجل من أهل الجنة ثلاث مرات ، ويخرج الرجل نفسه فتبعه عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنه ـ وهو شاب صغير ، فجلس عنده ثلاث ليالي ، يقول عبد الله : ما رأيت عنده شيء يختلف عن الصحابة فسألته : قلت له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ شهد لك ثلاث مرات بالجنة ، ما السر في ذلك ؟ فقال له الرجل : أننـي ما نمتُ ليلة وفي قلبي غلٌ على بشر .
– مراعاة ارتباط المتربين بالشعائر التعبدية دون ربطها “إشتراطياً” بالأشخاص .
وسائل عملية أخري :
– الجلسة التربوية التعبدية وحدها قد لا تكفي لتربية الأفراد، وهناك وسائل أخرى داعمة لها وتبعد شبح الفتور والملل وتبث الحماس من جديد في المتربين. ومن هذه الوسائل:
– الرحلة: وهي تتنوع حسب البرنامج التعبدي المحدد (التفكر، والمجاهدة، والسير في الأرض .. الخ).
– المبيت : إذا كانت الرحلة مجاهدة نهارية فالمبيت مجاهدة ليلية لها برنامجها الخاص (صلاة القيام، والصبر على العبادة الخ).
– المخيم : هو مرابطة تأطيرية شاملة تدفع بعجلة التربية في جانبها التعبدي دفعا قويا.
والمخيم هو انتقال سريع من مرحلة لأخرى فنجد فيه الجلسة والموعظة والرحلة والمبيت. وهو يصبغ حياة الأفراد بصبغة إسلامية طوال اليوم، وعلى مدى مدته.
– رحلات العمرة والحج .