من ثمرات التربية: القدرات المتميزة [1]

 

بقلم: أ. د. ناصر أحمد سنه
nasenna62@hotmail.com

  

إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلا هادي له، وصل اللهم علي المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وأله وصحبه وسلم، وبعد.. 

  

بين الفينة والأخرى تطالعنا فقرات إخبارية علي القنوات الفضائية، وشبكة المعلومات الدولية تعرض لمسابقات و”أولميباد” يتباري فيها شباب ما قبل مرحلة التعليم الجامعي في اليابان، وبعض دول جنوب شرق آسيا حيث يقدمون “ابتكاراتهم” الرائعة والمعقدة من “الروبوتات” التي صمموها وأداروها بأنفسهم. ولعل هذه الفقرات الإعلامية تبعث في النفس بخليط من مشاعر الدهشة، بل والغيرة في آن معاً، وتلح في طرح السؤال: متي تتبني التربية تنمية تلك المهارات البارعة، لتثمر في أبنائنا قدرات متميزة؟. 

نحن أمة” أقرأ”.. أمة الجمع بين النقل والعقل، أمة الوحي المعصوم الخالد، والاجتهاد المعرفي والعقلي، “أمة المعرفة” علي شتي صورها، أمة “العقل الوازع” في أمور العقيدة والتكليف، وأمة “العقل المُدرك” فى تتبع الأوامر والسُـنن والقوانين الكونية الشاملة، وأمة “العقل المتأمل” المُختص بالتأمل وتقليب الأمور على وجوهها للحكم الواعي عليها واستخلاص النتائج، ثم إننا أمة “العقل الرشيد”.. أعلى درجات العقل الإنساني، لكونه يعلو ويستوفى ما سبقه من أنواع العقل، فضلا عن مزيد من النضج والتمام. هذه الأمة قد أمرها ربها بالتفكر والتدبر والتعقل والتعلم والعلم والعمل والسعي لتقديم النموذج الوسطي الأسمى المُنقذ للعالمين. 

 

لقد سبق ذكر كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يراعي وينمي الخصائص الذاتية/ الفردية لكل فرد صحابته الكرام؟. وكيف كان جوابه الكريم يختلف كلما سُئل: (أي الأعمال أفضل؟) مراعياً بذلك حال السائل وطبيعته، وقدراته، وخصائصه، ومميزاته الخ، فيجيب مرة بقوله صلى الله عليه وسلم: (أفضل الأعمال، الإيمان بالله وحده ، ثم الجهاد(إلى آخر الحديث)، ويجيب مرة أخرى بقوله: ( أفضل الأعمال، الصلاة في أول وقتها )، وكذلك : (أفضل الأعمال أن تدخل على أخيك المؤمن سروراً..) الحديث إلخ. ونراه ـ صلي الله عليه وسلم ـ ينظر إلى “عبد الله بن عمر”، فيري فيه أهلية لصلاة الليل، فيقول فيه : “نِعم الرجل عبد الله، لو كان يصلي من الليل”. 

 

 وعندما يُسلم “خالد بن الوليد”، وهو قائد عسكري بطبعه، فيزكي فيه النبي صلى الله عليه وسلم، هذه الموهبة، وتلكم القدرة الفذة، ويوجهها إلى خدمة الحق، وفي سبيل الله تعالي: “نِعمَ عبدُ الله ، خالد بن الوليد: سيف من سيوفِ الله”.  ويقول في “أبي عبيدة بن الجراح”: “إن لكل أمة أمينا،ً وأن أميننا ـ أيتها الأمة ـ أبو عبيدة بن الجراح”، ويدعو صلى الله عليه وسلم لابن عباس قائلاً: (اللهم علّمه الحكمة، اللهمّ علمه الكتاب )، وقال صلى الله عليه وسلم: (أرحم أمتي بأمتي: أبو بكر، وأشدهم في أمر الله: عُمر، وأصدقهم حياءً: عثمان، وأقرؤهم لكتاب الله: أبيّ بن كعب، وأفرضهم: زيد بن ثابت، وأعلمهم بالحلال والحرام: معاذ بن جبل، ولكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة: أبو عبيدة بن الجراح)، إلى غير ذلك من الأحاديث التي تضع الأسس للعناية بمواهب المدعوين، وتنمية خصائصهم الذاتية، وقدراتهم المتميزة، واستمرارية معايشتهم، ودوام تربيتهم، وصقلهم.. كيفاً قبل صقلهم كماً. 

 

وفي “عصر المعلومات” وصناعة المعرفة.. يلعب التفكير الإبداعي واستثمار المعلومات وصولا  للعقل المبدع المبتكر دورا محورياً فيه، وأضحت الدول تـُقوم بعدد مبدعيها وبراءات الاختراع لديها. فتشير الإحصاءات ـ علي سبيل المثال ـ أن اليابان تُسجل نحو 1000براءة اختراع/ مليون نسمة من سكانها، وهنالك في السويد 200 براءة اختراع/ مليون نسمة ، بينما في الدول العربية براءة اختراع واحدة / مليون نسمة، فكيف ننمي مهارات “العقل المُبدع” كجانب أساس في النمو المعرفي والإدراكي والوجداني والسلوكي لدي أبنائنا؟. 

 

بـَدع الشيء بَدعاً: أخترعه، وأنشأه علي غير سابق مثال، فهو بديع، وأبدع: أتي بالبديع، والإبداع: إيجاد الشيء من عدم، والـبِـدع بكسر الباء: الأمر الذي يُفعل أولا، ويقال ما كان فلان في ذلك بٍدعاً، وفي القرآن الكريم:” قل ما كنت بـِدعاً من الرسل”، والبٍدع: الغاية من كل شئ[1]. 

العقل الإبداعي التجديدي / الابتكارى Mind Creative هو الذي يتناول سلسلة من العمليات المعرفية الذهنية المعتمدة على معلومات سابقة مُخزنة.. هادفاً للوصول إلي أفضل الحلول للمشكلات، وابتكار الوسائل المادية والمعنوية لتحقيق الغايات والأهداف المشروعة، لذا فهو يأتي في مقابل العقل الجامد/التقليدي:(إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنّـا على آثارهم مقتدون)(الزخرف:23). 

 

هذه العلميات المعرفية العقلية لها خطوات وعلاقات وقدرات وأشكال وأنماط ، فمن أولى خطواتها إجادة اللغة والثراء اللغوي، فاللغة ـ كما تشير الدراسات ـ مجموعة من العلامات تعبر عن الأفكار وعمليات التفكير المختلفة بين الناس، وتعكس فوارق البينية اللسانية بينهم، كما أنها مادة العقل والتفكير وترجمانهما، فالتفكير في مجمله لغة، وكلما ازدادت حصيلتها وثراؤها ازدادت عملياته كماً وكيفا[2]، وقد كان الاهتمام باللغة بداية التعبير عن الأشياء: (وعلم آدم الأسماء كلها) (البقرة:31). لذا فينبغي العناية باللغة العربية لكونها النهر الذي يُغذي بالعقائد والقيم والسلوكيات التي عماد بنية الشخصية والعقول والتفكير السليم، ومن ثم إثمار القدرات الإبداعية. والمتتبع لتراجم علماء حضارتنا العربية الإسلامية الأفذاذ ـ وحتى الأعاجم منهم ـ الذين أبدعوا في شتي تصانيف العلوم ومناحي الحضارة يجد لديهم معلما بارزا أنهم اغترفوا من لغتهم العربية.. حفظاً لكتاب ربهم وسنة نبيهم صلي الله عليه وسلم، ودراية ووعياً وإحاطة بآداب وفنون أقوامهم، يقول البيروني:” لهجاء باللغة العربية خير عندي من مدح بلغة أعجمية”. 


[1] انظر المعجم الوجيز، مادة بدع، طبعة خاصة بوزارة التربية والتعليم المصرية، 1414هـ، 1993م. 

[2]  العلاقة بين اللغة والتفكير مثار جدل عميق بين العلماء، فللمزيد عن هذا الموضوع راجع: د. جمعه سيد يوسف: سيكولوجية اللغة والمرض العقلي، وكرستين تمبل:المخ البشرى، عددي سلسلة عالم المعرفة: 145& 287، الصادران في يناير 1990م& نوفمبر 2002م، الكويت، وكذلك هاى روتشليس: التفكير الواضح، ترجمة لطيف دوس، دار نهضة مصر 1968م، ص 65-91. 

Naser

2 thoughts on “من ثمرات التربية: القدرات المتميزة [1]”

  1. د. ناصر ..

    نعم ، كما تفضلت أنه من ثمرات التربية ( القدرات المتميزة ) ..

    وكم أخرجت الأوساط التربوية ( طاقات ومواهب ) كانت دفينة لولا ( مربٍ فاضل ) ..

    ثمت أمر أجد استشكالا حوله وهي مسألة تسمية العقل الوازع المتعلق بأمور العقيدة ..

    لما لا نسميه العقل الجرئ ؟!!

    أقصد : أن الإنسان إذا عرف الثوابت ( العقيدة والإجماعات والسنن الإلهية ) فإنه حينها يدرك المساحة الحرة التي يمكن

    أن يتحرك فيها .. فهو من هذا الباب جرئ ، ومن الباب الذي ذكرته فهو ( الوازع ) .. وبالتالي : ألا يمكن أن يكون اسمه :

    العقل الوازع الجريء .. مثلا .

    جزاك الله خيرا ، وأثابك .

  2. حياك الله تعالي أخي الكريم بدر باسعد.. المحترم
    وشكرا لكم تواصلكم وتعليقكم علي السطور.
    لعل صفة “الوازع/ الرادع” قد الصقلت بالعقل لما فشا من تمرده علي الثوابت، فكان لزاما (عقله) وتحجيم ( جرأته) وضبط (مساحات عمله) ، لكن بعد إعتداله ومعرفة قدره أما النص الثابت .. قرآناً وسنة، لعله ليس هناك ما يمنع من وصفه (بالوازع الجرئ) كما تفضلتم
    والله أعلم
    والسلام
    ناصر سنه

التعليقات مغلقة.

نُشرت بواسطة

إدارة الموقع

إدارة الموقع

موقع تربوي يقدم تجربته في الحوار والإثراء المعرفي من عالم التطبيقات وعالم الواتساب الصغير إلى عالم المواقع وعالم الإثراء الكبير.