روح المتفائل

 

   

يرتاد أرواحنا من حوادث الدنيا ما يعتري النفس دوماً فيورث هموماً وأحزاناً , وربما تكدر الخاطر , وشابه شيء من وقفات الانتظار الطويلة لرؤية عواقب الأمور , والتبصر في ثنايا الحدث القائم .كل هذا شيء طبيعي لا يخلو منه أي بشر مهما زكى , بل هذا المصطفى صلى الله عليه وسلم يخرج من الطائف إلى قرن الثعالب هائماً على وجه إثر موقف أهل الطائف ذاك الزمان تجاهه. 


لكن إزاء ذلك نجد أن وجود التفاؤل , والنظرة للزاوية الإيجابية من كل ما يعكر الفكر سيخلق روحاً جديدة مفادها علو الهمة , وتناسي غبار الحادثة واستنشاق عطراً فواحاً لتفاؤل مجيد فتكمن هناك مصدات دفاعية لمواجهة المصاعب والأحزان أيًا كانت . و يجدر بنا الوقوف الجاد مع هذه النقطة حيث نجد القليل هم الذين يقلبون المحن إلى منح , وهم الذين يحسنون الظن في ربهم , وهم الذين تبقى رؤوسهم شماء عالية لا يستعبدها سوى الذي خلقها , ولعلنا أن نتعاطى هذا الموضوع من نقطتين,
الأولى نتاج الروح المتفائلة , والثانية كيف نجعل من ذواتنا أرواحاً متفائلة ؟
 
 أولاً: ما هي الآثار والنتائج من الأرواح المتفائلة ؟
1. على الأفراد :
 

– نيل الأجر والثواب في الصبر والتصبر, قال تعالى : ” وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ” [البقرة:155-157] .
و عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما، عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: “ما يصيب المسلم من نصب، ولا وصب، ولا هم، ولا حزن، ولا أذى، ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه ” .متفق عليه(واللفظ للبخاري). وهذا إن صبر صبراً لا سخط فيه , وقد روى مسلم عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ شَوْكَةٍ فَمَا فَوْقَهَا إِلا رَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً ، أَوْ حَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً ) .
 

– العيش بطريقة متوازنة دينياً واجتماعياً إذ التفاؤل يعكس على نفس صاحبه أنه لم يتغير شيء في حياته ليجعله منهزماً متشائماً , وفي المقابل فإن المتشائم يفقد حيويته , وتفاعله مما يقد يرمي نفسه بالتهم الزائفة والتي ستزيد من كثرة جراحه , ونشوب نار القلق و الاكتئاب في ذاته .

 – خلق كثير من الفرص وطرق التعويض في غضون التحديات والمفاوز التي تحدث , وهذا يشكل روحاً مرنة تتعايش مع أي نازلة (بإذن الله).

 

2. على المجتمع:

– وجود تعاون على كافة أصعدة القضايا العمومية من حيث التكاتف في دفع الأضرار , وإيجاد الأسباب في جلب الخير.

– انتشار ثقافة الأعمال التطوعية والمشاريع الخيرية , وإن وجود مبادرات تطوعية لخدمة المجتمع والقيام على مصالحه يندثر معها لاشك إسقاط المشكلات على الغير أو حتى الوقوف موقف المتفرج , فيكن هناك روح التفاؤل والإيجابية.

– تطبيع الثقافة التفاؤلية على مستوى الجماعات والأفراد , والعمل بالروح المتفائلة مهما بلغت المخاطر والحواجز النفسية والوهمية.

 

ثانياً : كيف الطريق لإيجاد الروح المتفائلة في ذواتنا ؟
(سندمج هنا ما يكون على الفرد والمجتمع إذ ما يقوم به الفرد سيكون أثره على المجتمع , وما سيفعله المجتمع لن يقوم به سوى الأفراد).

* الوقوف عند نصوص الوحي الرباني والهدي النبوي , وأخذ كامل العظة والتدبر منهما , والقراءة في أخبار وواقع فعل السلف -رضي الله عنهم- وهذه بعض النماذج ,وهي كثيرة جداً:
– الله سبحانه يقول عن المؤمنين في غزوة الأحزاب:” وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ” .

– رد الرسول -عليه الصلاة والسلام- لخباب بن الأرت حين أتاه كما جاء في الحديث الصحيح , عن خبّاب بن الأرت قال قلنا يارسول الله ألا تستنصر لنا ، ألا تدعو الله لنا ، فقال :” إن من كان قبلكم كان أحدهم يوضع الميشار على مفرق رأسه فيخلص إلى قدميه لا يصرفه ذلك عن دينه ، ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه لا يصرفه ذلك عن دينه ، ثم قال : والله ليتمّن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلاّ الله والذئب على غنمه ، ولكنكم قوم تستعجلون “.

– موقف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حين كان يحرض الناس على جهاد التتار ويقول نحن منصورون قالوا له : قل إن شاء الله كان يقول : تحقيقاً لا تعليقاً , أي أن الله تعالى محقق ذلك بمشيئته وقدرته فشاء الله النصر , وهذا يدل على ثقة شيخ الإسلام بنصر الله تعالى وعلى قوة إيمانه .

– التواجد دائماً في البيئات المتفائلة , الإيجابية , والعكس صحيح , وقد ذكر المولى-تبارك وتعالى-في حق نبيه-صلى الله عليه وسلم-:” وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ
ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا “, وذاك نظير الروح التي يمتلكونها فهم يدعون إلى الله في الغداة والعشي , وهذا دليل على إيجابية نفوسهم , وتفاؤل أرواحهم , وعدم عجزهم , وتخاذلهم.

–  التدرب على حل المشكلات, وإدارة الأزمات, وفقه ذلك من أرباب الحق. والتعلم على إيجاد البدائل , وإيجاد القرارات الناجحة وفق منطق رائد منبثق من الأطر الأصولية, والحقائق النفيسة, ولا أدل من النفس الطويل التي تحظى به بعض الأقليات الإسلامية المضطهدة , والمشاريع المحاربة , بل حتى الأفراد المنكوبين , والذي تظهر في ردات أفعالهم مايشهد التاريخ لهم بجسارة فؤاد وحسن نظر .

– تربية النشء دائماً وأبداً على التفاؤل واستقصاء الحلول والبدائل في غضون أي صغيرة وكبيرة , ورفض أي تقاعس في بذل ما يستطيعه تجاه طلب مرغوب أو دفع ضرر .
وهكذا فإن الحياة الدنيا واحدة لا تستحق أن يجعلها الإنسان عائقه عن التغيير والتجديد , فعش سوياً طامح العليا , و ليكن مرماك التغيير والتأثير ؛ وكل ما تجده من الأزمات , والمعوقات تجعله عوناً لمسيرتك لا معيقاً عنها , وذلك مذهب العظماء . . وأما العيش مستسلماً فهذا شأن واهن النفس , ولكل وجهة هو موليها .

 

Thabit66@gmail.com

2 thoughts on “روح المتفائل”

  1. ما شاء الله أخي سعيد .. مقال جميل ورائع ..

    وإن كان لي ملاحظة فهي على معنى الآية ( يدعون ربهم بالغداة والعشي ) : قلت في معناها ( يدعون إلى ربهم ) ولكن المراد الأقرب للآية هو ( الدعاء ) وليس ( الدعوة ) أي الإنابة والإخبات .. ولذا بعد أن دعاه الله تعالى للتمسك بمن هذه صفتهم نهاه عن ( من أغفلنا قلبه عن ذكرنا ) ..

    ومن تفسير السعدي ” يأمر تعالى نبيه محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ وغيره أسوته، في الأوامر والنواهي أن يصبر نفسه مع المؤمنين العباد المنيبين ‏{‏الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ‏}‏ أي‏:‏ أول النهار وآخره يريدون بذلك وجه الله، فوصفهم بالعبادة والإخلاص فيها، ففيها الأمر بصحبة الأخيار، ومجاهدة النفس على صحبتهم، ومخالطتهم وإن كانوا فقراء فإن في صحبتهم من الفوائد، ما لا يحصى‏. ” ..

    والخلاصة أن المعنى الأقرب هو الدعاء والإنابة .. وأما معنى الدعوة إلى الله تعالى فقد يدخل لزوما لا مطابقة .

    والله أعلم .

    بارك الله فيك … نقاطك في محلها وهي معينة على التفاؤل بإذن الله تعالى .

التعليقات مغلقة.

نُشرت بواسطة

إدارة الموقع

إدارة الموقع

موقع تربوي يقدم تجربته في الحوار والإثراء المعرفي من عالم التطبيقات وعالم الواتساب الصغير إلى عالم المواقع وعالم الإثراء الكبير.