أسس البناء التربوي الدعوي – 3

 

الله تعالى لم يخلق الإنسان عبثاً ولا هملاً في هذه الحياة , قال سبحانه ” ” أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ( 155) سورة المؤمنون. بل خلقه لغاية مقصودة وحكمة معلومة ومحدودة , قال تعالى: ” وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ( 56 ) سورة الذاريات.

 

 والمسلم الحق هو من يحدد هدفه في هذه الحياة , فإن مقدار نجاح الإنسان في حياته على كل المستويات يتحدد بكم الأهداف التي قام بتحقيقها،ووضوح السبيل الذي سلكه وكلما كانت هذه الأهداف سامية كان أكثر نجاحًا , وكلما كان السبيل واضحاً كان أكثر صلاحاً وإصلاحاً.

قال ابن الرومي:

أمامك فانظر أى نهجيك تنهجِ * * * طريقان شتى مستقيم وأعوجِ

 

وعلى الداعي إلى الله تعالى أن يجعل لكل وقت من حياته هدفـًا، ولكل عمل غاية، وأن يضبط حياته على هذا الأساس، لما أحس الخليفة سليمان بن عبد الملك بدنو أجله , ولما لم ير في ولده ما يريد من الاستخلاف حدث نفسه بولاية عمر بن عبد العزيز لما كان يعرف من حاله فشاور رجاء فيمن يعقد له فأشار عليه رجاء بعمر وسدد له رأيه فيه فوافق ذلك رأي سليمان وقال لأعقدن عقدا لا يكون للشيطان فيه نصيب فلما اشتد به وجعه عهد عهدا لم يطلع عليه أحدا إلا رجاء بن حيوة الكندي استخلف فيه عمر بن عبد العزيز ويزيد بن عبد الملك من بعد عمر فدخل سعيد ابن خالد مع عمر بن عبد العزيز وبعض أهل بيته يعودون سليمان فرأوا به الموت فمشى عمر بن عبد العزيز وسعيد بن خالد ورجاء بن حيوة وتخلف عمر كأنه يعالج نعليه حتى أدركه رجاء فقال له يا رجاء إني أرى أمير المؤمنين في الموت ولا أحسبه إلا سيعهد وأنا أناشدك الله إن ذكرني بشيء من ذلك إلا صددته عني وإن لم يذكرني أن لا تذكرني له في شيء من ذلك فقال رجاء لعمر لقد ذهب ظنك مذهبا ما كنت أحسبك تذهبه أتظن بني عبد الملك يدخلونك في أمورهم وقد كان سليمان فرغ من ذلك ولكنه أراد إخفاءه عن عمر فلما ولي هشام بن عبد الملك ذكر له فعل رجاء بن حيوة فقال أوليس بصاحب عمر بن عبد العزيز يوم وافقه ثم أصبح وقد استخلف فذكر لرجاء فقال رجاء أولا أخبركم عن ذلك الموقف إن عمر نشدني الله أن لا أذكره في شيء من أمر الخلافة وإن كان سليمان ذكره أن أصده عنه فعجب هشام من قول رجاء وقال ” وما أحسب عمر خطا خطوة قط إلا وله فيها نية”. راجع : ابن عبد الحكم : سيرة عمر بن عبد العزيز ا/ 35.

 

ولذلك فقد استطاع عمر في أقل من سنتين تقويم اعوجاج جيلين ، وإنجاز ما لم ينجزه أكثر الخلفاء في سنين عدة , وكل ذلك لأنه قد حدد هدفه بدقة .

وكان معاذ -رضي الله عنه- يقول: “إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي”. أخرجه : عبد الرزاق ( 5959 ) ، وأحمد 4/409 .

ويقول مُطرَّف بن عبد الله بن الشخِيّر العامري: ” صلاح العمل بصلاح القلب ، وصلاح القلب بصلاح النية ، ومن صفا : صُفّي له . ومن خلط : خُلَّط عليه ” .الإحياء 3/478.

وعَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ ، قَالَ : أَوْصَى رَجُلٌ ابْنَهُ ، فَقَالَ : يَا بُنَي ، أَظْهِرَ الْيَأْسَ مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ فَإِنَّهُ غِنًى ، وَإِيَّاكَ وَطَلَبَ الْحَاجَاتِ فَإِنَّهُ فَقْر حَاضِرٌ ، وَإِيَّاكَ وَمَا يُعْتَذَرُ مِنْهُ بِالْقَوْلِ ، وَإِذَا صَلَّيْت فَصَلِّ صَلاَةَ مُوَدِّعٍ لاَ تَرَى أَنَّك تَعُودُ ، وَإِنَ اسْتَطَعْت أَنْ تَكُونَ الْيَوْمَ خَيْرًا مِنْك أَمْسِ وَغَدًا خَيْرًا مِنْك الْيَوْمَ فَافْعَلْ.مصنف ابن أبي شيبة 14/26.

وكما يقول الرافعي : ” إن الخطأ الأكبر أن تنظيم الحياة من حولك ، وتترك الفوضى في قلبك ” وحي القلم 2/44 .

يقول الشاعر:

وما الحياة بأنفاس نرددها * * *  إن الحياة حياة العلم والعمل

 

والداعية المربي أحوج الناس إلى وضوح الرؤية وتحديد الهدف , وعليه أن يؤمن إيماناً جازماً بحسن القصد وصدق التوجه , وأن يحرص على دعوته وعلى فكرته ويتشبث بها , ويحرص على انتهاز الفرص لبذرها بين الناس , قال تعالى مبرزاً لهذه الصفة في النبي صلى الله عليه وسلم : ” ” لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (128) سورة التوبة .

فالإيمان بسلامة الهدف هو الدافع المحرك للقوى الكامنة في نفس الإنسان؛ فشتان بين الداعية المربي الذي يأخذ من اليقين والثقة بالله تعالى شعاراً ودثاراً له , وبين آخر يأخذ الدعوة على أنها وظيفة يتربح منها , وليست رسالة يجب أن يعيش لها .

عَنِ الثَّوْرِيِّ ؛ قَالَ : قَالَ عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ لِأَبِيهِ : يَا أبة ! ما لك إِذَا تَكَلَّمْتَ أَبْكَيْتَ النَّاسَ ، وَإِذَا تَكَلَّمَ غَيْرُكَ لَمْ يُبْكِهِمْ ؟ فَقَالَ : يَا بُنَيَّ ! لَيْسَتِ النَّائِحَةُ الثَّكْلَى مِثْلَ النَّائِحَةِ الْمُسْتَأَجَرَةِ .ابن عبد البر : المجالسة وجواهر العلم 3/110.

يقول ابن دريد:

لَيْسَ السَّلِيمُ سَلِيمَ أَفْعَى حَرَّة ٍ* * *  لكنْ سليمَ المقلة ِ النَّجلاءِ

نظرتْ ولا وسنٌ يخالطُ عينها  * * * نظرَ المريضِ بسورة ِ الإغفاءِ

 

ومن هنا فإن يجب على كل داعية وكل مرب أن يربي نفسه ويعودها على التنظيم والتخطيط لأمور الحياة من خلال الأمور الآتية :

 

أ – ملاحظة هذا الجانب في الأمور التعبدية , فقد حدد الله لنا لجميع العبادات أوقات ومقادير حتى نتعود على الانضباط والتنظيم .

 

ب – إدراك أهمية الوقت وأنه أغلى الإمكانات المتاحة وأنه مورد لا يمكن تعويضه واستغلاله باستمرار الاستغلال الأمثل .

 

ج – ليكن شعارك : ( الكون منظم فلا مكان فيه للفوضى ).

 

د – اجعل التنظيم والتخطيط لأمور حياتك سلوكاً دائماً تستمتع به وتعلمه من حولك .

 

هـ – لا تجعل التوافه تغلبك ولا معوقات الطريق تأخذك عن الاستمرار في تحقيق هدفك .

 

و – كن طموحا ومميزاً في تحقيق هدفك , ولا تكن إمعة تسير مع الناس حيث ساروا , عَنْ حُذَيْفَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:لاَ تَكُونُوا إِمَّعَةً ، تَقُولُونَ : إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا ، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا ، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكْمْ ، إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا ، وَإِنْ أَسَاؤُوا فَلاَ تَظْلِمُوا. أخرجه التِّرْمِذِي (2007).

 

قال الشاعر :

وكُلُّ شَجاعةٍ في المرء تُغنِي  * * * ولا مِثلَ الشّجاعة في الحَكِيمِ

وكم من عائِبٍ قَولاً صَحيحًا * * * وآفَتهُ مِنَ الفَهمِ السّقِيمِ

ولكِنْ تَأخذُ الآذان منهُ * * * على قَدَرِ القَرائِحِ والعُلُومِ

 

وأخيراً فعليك بالوسطية والحكمة والاتزان في تحديد أهدافك وفي السعي لتحقيقها ؛ فإن الوسطية والاتزان هما روح الإسلام وسر وجوده وأساس خلوده .

وهو ما سوف نعرضه في المقال القادم بمشيئة الله تعالى .

نُشرت بواسطة

إدارة الموقع

إدارة الموقع

موقع تربوي يقدم تجربته في الحوار والإثراء المعرفي من عالم التطبيقات وعالم الواتساب الصغير إلى عالم المواقع وعالم الإثراء الكبير.