من سمات المربي والداعية الناجح أنه دائم التواصل مع الناس , دائم الاتصال بالواقع يتأثر ويؤثر , وينفعل ويتفاعل , فهو لا يعيش في برج عاجي يتحدث مع الناس بما لا يعرفون , ويخاطبهم بما لا يفهمون , قَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه : ” حَدِّثُواْ النَّاسَ بمَا يَعْرِفُونَ أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ الله وَرَسُولُهُ!!” . أخرجه البخاري مرفوعا (ح 127), وقال ابن مسعود رضي الله عنه : “ما أنتَ بمُحَدِّث قوما حديثا لا تَبلُغُه عقُولهم إِلا كان لبعضهم فِتْنة”.مرسل : أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه (1/11).
والتواصل مع الناس والاتصال بهم فن لا يجيده كل أحد , فلقد حبا الله تعالى من يحب من خلقه محبة تجعل الناس يقبلون إليه لا بقلوبهم فقط إنما بأرواحهم وعقولهم ,فهو إلف مألوف , قال تعالى : ” وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) سورة الأنفال ,وعن سهل بن سعد، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” المؤمن يألف ويؤلف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف “. صحيح الجامع الصغير وزيادته للألباني، 6661 .
يقول الشاعر:
النمل تبنى قراها في تماسكها * * * والنحل تجنى رحيق الشهد أعوانا
فإذا كان المرء في الإسلام يحسن له المخالطة، فإن هذه المخالطة ستؤدي لتأثر المُخَالط ممن خالطهم. ودليل ذلك ما نقله أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير: فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير إما أن يُحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحا خبيثة. صحيح البخاري، 2628.
قال الخوارزمي:
لا تصحب الكسلان في حاجاته* * * كم صالحٍ بفساد آخر يفسد
عدوي البليد إلى الجليد سريعةٌ * * * والجمر يوضع في الرماد فيخمد
ويقول ابن الجوزي: ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه، وقدر وقته، فلا يضيع منه لحظة في غير قربة. ويقدم الأفضل فالأفضل من القول والعمل. ولتكن نيته في الخير قائمة، من غير فتور، بما لا يعجز عنه البدن من العمل .
وقد كان جماعة من السلف يبادرون اللحظات. فنُقل عن عامر بن عبد قيس، أن رجلاً قال له: كلمني، فقال له: أمسك الشمس! وقال ابن ثابت البناني: ذهبت ألقن أبي، فقال: يا بني دعني فإني في وردي السادس. ودخلوا على بعض السلف عند موته، وهو يصلي، فقيل له. فقال: الآن تطوى صحيفتي. ابن الجوزي : صيد الخاطر 1/4.
مضى أمسُكَ الماضي شهيدًا معدَّلاً * * * وأعقبه يومٌ عليك جَديدُ
فَيَومُكَ إن أغنَيْتَه عاد نَفعهُ * * * عليك وماضِي الأمس ليس يعودُ
فإن كنتَ بالأمس اقترفت إساءةً * * * فثنّ بإحسانٍ وأنت حَميدُ
فلا تُرجِ فعلَ الْخيْر يومًا إلَى غدٍ * * * لعل غدًا يأتي وأنت فقيدُ
ومع أن الإسلام قد حثنا على التواصل مع الآخرين , إلا أن هذا التواصل لا بد أن يكون بمقدار وحكمة , فهو تواصل إيجابي وليس تواصل ذوبان وأن لا يزل الإنسان نفسه للخلق , يقول الشاعر :
إذا أنت لم تَعْـرِفْ لنـفسك حقها * * * هوانًا بها كانت على الناس أهـونــا
فنفسكَ أكرمها وإن ضاق مسكـن * * * عليك بها فاطلب لنفسك مسكـنــا
والمرء في مخالطته وفي تواصله مع الناس عليه أن يدرك أن طباع الناس مختلفة , وأنه سوف يلقي الأذى ممن يكرهون الحق ويعادونه ,عَنْ يَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:الْمُؤْمِنُ الَّذِى يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الْمُؤْمِنِ الَّذِى لاَ يُخَالِطُ النَّاسَ وَلاَ يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ. أَخْرَجَهُ أحمد 2/43(5022) و”البُخَارِي” في (الأدب المفرد) 388 والتِّرْمِذِيّ” 2507 الألباني في “السلسلة الصحيحة” 2 / 652 .
قال ابن القيم : ” وإنما ينبغي للعبد أن يأخذ من المخالطة بمقدار الحاجة ويجعل الناس فيها أربعة أقسام ، متى خلط أحد الأقسام بالآخر ولم يميز بينهما دخل عليه الشر :
أحدها : من مخالطته كالغذاء لا يستغنى عنه في اليوم والليلة فإذا أخذ حاجته منه ترك الْخِلْطَة ، ثم إذا احتاج إليه خالَطَه ، هكذا على الدوام ، وهذا الضرب أعزّ من الكبريت الأحمر ! وهم العلماء بالله تعالى وأمره ، ومكايد عدوه ، وأمراض القلوب وأدويتها ، الناصحون لله تعالى ولكتابه ولرسوله ولِخَلْقِه ، فهذا الضرب في مخالطتهم الرِّبح كله .
القسم الثاني : مَن مخالطته كالدواء يحتاج إليه عند المرض ، فما دُمت صحيحا فلا حاجة لك في خلطته ، وهم من لا يستغنى عنه مخالطتهم في مصلحة المعاش وقيام ما أنت محتاج إليه من أنواع المعاملات والمشاركات والاستشارة والعلاج للأدواء ونحوها .
القسم الثالث : وهم من مخالطته كالداء على اختلاف مراتبه وأنواعه وقوّته وضعفه ؛ فمنهم من مخالطته كالداء العضال والمرض المزمن ، وهو من لا تربح عليه في دِين ولا دنيا ! فهذا إذا تمكّنَتْ مخالطته واتّصَلَتْ فهي مرض الموت الْمَخُوف !,ومنهم مَن مخالطته كوجع الضرس يشتد ضرباً عليك فإذا فارقك سكن الألم .ومنهم مَن مخالطته حمى الروح ، وهو الثقيل البغيض العقل الذي لا يحسن أن يتكلم فيُفيدك ، ولا يحسن أن يُنصت فيَستفِيد منك ، ولا يعرف نفسه فيضعها في مَنْزِلتها ، بل إن تكلَّم فكلامه كالعِصِيّ تَنْزِل على قلوب السامعين ! مع إعجابه بكلامه وفَرَحِه به ، فهو يُحْدِثُ مِن فِيهِ كلما تَحَدَّث ! ويظن أنه مِسْكٌ يُطيِّب به المجلس ! وإن سكت فأثقل من نصف الرَّحا العظيمة التي لا يُطاق حملها ولا جرّها على الأرض !.
القسم الرابع : مَن مخالطته الْهُلْك كلّه ، ومخالطته بمنْزِلة أكل السّمّ ، فإن اتَّفق لأكله ترياق وإلا فأحسن الله فيه العزاء ! وما أكثر هذا الضرب في الناس لا كثَّرهم الله ، وهم أهل البدع والضلالة الصادّون عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الدّاعون إلى خلافها ، الذين يَصُدُّون عن سبيل الله ويبغونها عوجا ؛ فيجعلون البدعة سنة ، والسنة بدعة ، والمعروف منكرا ، والمنكر معروفا . ابن القيم : بدائع الفوائد 3/403.
فلا تختر من تخالطه فيكون ثقيلاً عليك , فالثقيل ضرره أكثر من نفعه ,قال الشاعر :
سقط الثقيل من السفينة في الدجى *** فبكى عليه رفاقه وترحموا
حتى إذا طـلـــع الصـبـاح أتـت به*** نـحـو السفينة موجة تتقدمُ
قالت خُـــذوه كمـا أتـانـي سـالـمـاً *** لم ابتلعه لأنه لا يهضم
ولكي يتواصل الداعية مع الناس ويؤثر فيهم لا بد له من صفات يتحلى بها , وسمات يتميز بها , من أهمها : الميل العاطفي والمحبة القلبية للمدعو تصديقا لقوله سبحانه : “وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ” سورة آل عمران: 159.
وكذا القدوة السلوكية الحسنة , والإقناع العقلي والحجة العلمية وتفاعلاته الدعوية التربوية مع الناس .
وأما الاتصال بالواقع فهو أمر ضروري للداعية , ولقد بات ملحاً أن تتربى الأمة على فقه الواقع، وحسن تقدير الظروف، وعلى فقه الموازنة بين الأمور. أو على الأقل أن تكون هناك قاعدة جماهيرية، تتربى على شيء من الوعي والدراية بحالة الأمة، ومعاناتها، وخطورة المرحلة التي تعيشها، وإصابتها بأمراض الاستنقاع والتردي الحضاري.
أما أن يصبح الداعية في واد وأمته في واد آخر ؛ فإن ذلك مما يخلق فصاماً بينه وبين الناس .
قال ابن القيم رحمه الله ” فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله ” وقال ” من شروط المفتي معرفة الناس ، والإراج عليه المكر والخداع والاحتيال ” راجع : إعلام الموقعين” (4/204، 205).
بل أكد على أن الفتوى تتغير بتغير الواقع فقال :” فإن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والعوائد والأحوال وذلك كله من دين الله” . إعلام الموقعين 4/224.
وهكذا لكي ينجح الداعية / المربي فإن عليه أن لا ينفصل عن الكون من حوله , وأن يظل على صلة دائمة بمستجدات العصر , وأن يستغل التقنيات الحديثة ويسخرها لخدمة دعوته , حتى تؤتي الدعوة ثمارها المنشودة وأهدافها المأمولة .