الوسطية في الإسلام منهج في الحياة والأخلاق والعلاقات الفردية والجماعية .. وكذا في العبادات وسائر المعاملات .
والوسطية تعني الاعتدال والاتزان وعدم التشدد والتطرف , والبعد عن الإفراط والتقريط والغلو والتهاون, والإسلام هو دين الوسطية بما حباه الله تعالى من يسر في التشريع واتزان في الأحكام والقوانين , قال تعالى : ” وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا .. (143) سورة البقرة.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ:” إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا ، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ ، وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ. أخرجه البخاري (39) و”ابن حِبَّان” 351 ,الألباني في ” السلسلة الصحيحة ” 3 / 150 .
فالوسَطِيَّةُ تعني اتِّباعَ الصِّراطِ المُسْتَقيم والثَّباتَ عليه والحَذَرَ من المَيْلِ إلى أَحَدِ جانِبَيْه، ولقد ضربَ النبيُّ – صلى الله عليه وسلم- لذلكَ مثلاً محسُوساً: فَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – فَخَطَّ خَطًّا وَخَطَّ خَطَّيْنِ عَنْ يَمِينِهِ وَخَطَّ خَطَّيْنِ عَنْ يَسَارِهِ ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ فِي الْخَطِّ الأَوْسَطِ فَقَالَ:( هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ ) ثُمَّ تَلاَ هَذِهِ الآَيَةَ ” وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ “سورة الأنعام153 . أخرجه أحمد 3/397(15351).
والوسطية في الإسلام تشمل جميع مناحي الحياة في العبادات والمعاملات ؛ ففي مجال العبادات كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤكد لأصحابه دائماً على هذه الخصيصة التي خص الله بها الإسلام , وينهاهم عن الغلو والتشدد , فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ: أَلاَ هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ .. هلك المتنطعون .. هلك المتنطعون ) أخرجه أحمد 1/386(3655) و”مسلم” 8/58(6878) .
وعَنْ غرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ ؛ عَنْ عَائِشَةَ ؛ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسًولُ الله صلى الله عليه وسلم وَعِنْدِي امرأة . فَقال : مَنْ هَذِهِ ؟ فَقُلْتُ: امرأة ، لا تَنَامُ ، تُصَلِّي . قال : عَلَيْكُمْ مِنْ الْعَمَلِ مَا تًطِيقُونَ . فَوَالله لا يَمَلُّ اللهُ حَتَّى تَمَلُّوا ، وَكَانَ أحب الدِّينِ إليه مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ . صحيح ، ابن ماجة ( 4238 ).
وفي مجال المعاملات أمرنا الله تعالى بالاعتدال والاتزان في الإنفاق , فقال سبحانه : ” وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) سورة الأعراف ,وقال :”وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً ” سورة الإسراء:29.
حتى في مجال المشاعر والحب والكره أمرنا الإسلام بالوسطية , عن علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- قال: “ أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْنًا مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ بَغِيضَكَ يَوْمًا مَا ، وَأَبْغِضْ بَغِيضَكَ هَوْنًا مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ حَبِيبَكَ يَوْمًا مَا”. سنن الترمذي 4/360، برقم: 1997، وصححه الألباني في الجامع الصغير وزيادته 1/18، برقم: 178.
وفي مجال احترام الآخرين وحسن إقامة العلاقة معهم وتوقيرهم: نهى الإسلام عن القطيعة والهجر، لأنه لون من ألوان التشدد والتطرف , كما جاء في حديث أنس بن مالك – رضي الله عنه – أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – قال: ” لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث أيام ” صحيح البخاري 5/2253، برقم: 5718.
بل وجعل من علامات النفاق الفجر في الخصومة وعدم الاعتدال فيها , عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ:” أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ ، كَانَ مُنَافِقًا ، أَوْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ ، كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ ، حَتَّى يَدَعَهَا : إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا وَعَدَ أخْلَفَ ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ. أخرجه “أحمد” 2/189 (6768) و”البُخَارِي” 1/15 (34) و”مسلم” 1/56(122) .
والوسطية والاعتدال ليس مع المسلمين فقط إنما مع جميع الناس , حتى مع العدو، قال تعالى: ” وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ” المائدة:8 .
والوسطية في الدعوة إلى الله تعالى هي سداة الدعوة ولحمتها , فقد أمرنا الله تعالى بالدعوة إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة , فقال سبحانه : ” ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) سورة الزخرف .
والحكمة هي الوسطية لأنها تضع الشيء في موضعه فلا تنأي به إلى أقصى الطرفين .. يقول الشاعر:
ليس البلية في أيامنا عجباً * * * بل السلامة فيها أعجب العجبِ
ليس الجمال بأثواب تزيننا * * * إن الجمال جمال العقل والأدبِ
ليس اليتم الذي مات والده* * * إن اليتم يتم العلم والأدبِ
وعلى الدعاة والمربين أن يحسنوا عرض الإسلام للآخرين , فلا يقدمونه لهم على أنه دين غلو وتطرف بل على أنه دين الوسطية والدعوى إلى الله بالحسنى , ويوم أن نفعل ذلك سيعرف الآخرون للإسلام قدره ومكانته , قال تعالى : ” كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17) سورة الرعد.
يقول الشاعر :
قل للذي بصروف الدهر عيّرنا * * * هل حارب الدهرُ إلا من له خطرُ
أما ترى البحر تعلو فوقه جيف * * * وتستقر بأقصى قعره دررُ
وفي السماء نجوم لا عداد لها * * * وليس يكسف إلا الشمس والقمرُ
ومن الوسطية الاتصال بالناس والواقع وعدم الانعزال عنهما , فالانعزال عن الناس والواقع لون من ألوان العنف والتشدد , وهو مضاد للوسطية , كما أن الذوبان في الآخرين – كذلك – لون من ألوان المجافاة للوسطية .
فالداعي الحق هو من يتواصل مع واقعه دون أن يؤثر ذلك في شخصيته وتميزه , أو يجعله يتنازل عن أهدافه إرضاءً لهذا الواقع .
وهو ما سنعرض له في المقال القادم بمشيئة الله تعالى .
التعليقات مغلقة.
اولاً ماشاء الله تبارك الله, نبارك لكم هذه المدونة الرائعة وهي مدونة ملتقى المربين, بتصميمها الفذ, واسأل الله العلي القدير ان يكتبها في ميزان اعمالكم امين, خاصة ان التربية الاسلامية من اهم مقومات سفينة النجاة في هذا العصر التي تكالبت وتعاضدت قوى الشر التي تهدم بإخلاقيات الشباب والشابات, فنرى التناقضات ووهج المعاصي والشهوات ملمعة بالاغراءات ومدسوس بها السم لتنخر بإخلاقيات واتجاهات المسلم, بوركتم من رجال ايها المربون .
جزى الله ” عطور” خيراً وجعلنا دائماً عند حسن الظن فهذا موقعكم وننتظر دائما مشاركتكم وآرائكم الطيبة التي هي زادنا والنور الساطع الذي يضيء لنا الدروب ويسدد لنا الخلل والعيوب .
مع خالص التحية وعاطر الثناء والتقدير