يوما بعد يوم تحمل إلينا الأيام، ومجريات الأحداث ما يبين أن لـ”عقد الصحبة الفريد” أثره الإيجابي والسلبي، ليس فقط في واقع هذه الحياة الدنيا، بل يتعداه إلي “المصير الأخروي” يوم القيامة، مما يجعل هذا “العقد” من “العقود المصيرية”، يقول الله تعالي:”وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا، يوَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا، لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا”(الفرقان:27-29).
أيها الشباب: علاقات الصحبة التي تتكون علي غير هدي من الدين ستكون نتائجها رهيبة في الآخرة، وسيقف من كانوا يجتمعون في الدنيا ـ كأصدقاء سوء ـ على مواقع الضلال والعبث والفساد والفسوق والانحراف الخ، أمام مصير محتوم ليُحّمل كل واحد الآخر المسؤولية عما آلت إليه هذه العلاقة:”الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ، يا عباد لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ”(الزخرف: 67-68). خلة انقلبت إلى عداوة.. عدواً كان في ثوب صديق، وضحكات انقلبت إلي آهات، وأفراح تبدلت إلي أتراح. أما المتقون المتعاونون على البر والتقوى، المتواصون بالحق والصبر، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون علي فوات أي شيء من “لهو” هذه الدنيا الفانية.. فلقد بقي “عقد” خلتهم الإيماني النقي الصافي موصولا بين الدنيا والآخرة.
وفي نطاق الاستكبار والاستضعاف.. هنالك تتبدى حسرة وندامة هذه العلاقة، وعلاقة كل مَن يتبع غيره إتباعا اعمي، فيسير علي غير هدي من الشرع والقيم والأخلاق والمعاملات: “إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الْأَسْبَابُ، وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمْ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ”(البقرة:166-167).
يا شباب: إن عظم ذلك الأثر ونتائج تلك العلاقات تلح علي مداومة التأكيد علي حسن اختيار الأصحاب والأصدقاء والأخلاء، والوعي بأدب وحقوق الصحبة والصداقة والخلة. قال الإمام الغزالي: “إذا طلبت رفيقا ليكون شريكك في التعلم وصاحبك في أمر دينك ودنياك فليكن فيه شرط خمس لا يصلح إلا بها. الأولي: العقل، فلا خير في صحبة الأحمق الذي يسوق غلي الوحشة والقطيعة وتضر مصاحبته من حيث يريد نفعك، لذا فعدو عاقل خير صديق أحمق جاهل. الثانية: حسن الخلق، فلا تصحب من ساء خلقه، ولا يملك نفسه عند الشدة والشبهة والشهوة. الثالثة: الصلاح، فلا تصحب فاسقا، فمن لا يخاف الله تعالي لا تؤمن غوائله، وهو يتغير بتغير الأعراض والأحوال، ومداومة مشاهدة الفسوق والمعصية تزيل عن القلب كراهيتها، وتهون عليه أمرها. الرابعة: لا تصحب حريصا، فصحبته علي الدنيا سم قاتل. الخامسة: الصدق، فلا تصحب كذابا، فانك منه في غرور، وهو مثل السراب يقرب منك البعيد، ويبعد عنك القريب”.
ويضرب لنا القرآن الكريم أنموذجا رائعاً لعلاقة “الصحبة الإيمانية” ، وحسن الاختيار الذي جمع بين الفتية “أصحاب الكهف”، لقد كانت آيه.. آية رحمة ورشد وإيمان وهدي، وأنموذجاً خالداً:”أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا،إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا، فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا، ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا، نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى”(الكهف:9ـ13).
أي شباب: متى قامت بين المسلم وأخيه صحبة فلها آداب وحقوق يوجبها “عقد الصحبة، وميثاقها المصيري”، وعندما تتسق دائرة الإيمان مع دائرة الصداقة تتغلف هذه العلاقة بسياج يميزها في سماتها عن باقي العلاقات الاجتماعية والإنسانية، فهي تحمي هذه الصحبة وتصونها، وتزيدها قوة ومنعة ومتانة.
ففي ظل الخلة الإيمانية يعيش المسلم وهو يعلم ويوقن أن غايته الكبرى لا ينالها إلا بالحب في الله تعالي.. سبيل مؤدي لدخول الجنة، والتظلل بظل الله تعالى يوم لا ظل إلا ظله، قال صلى الله عليه وسلم:”والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شئ إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم”(رواه مسلم)،”.. ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه..”(متفق عليه من حديث أبى هريرة رضي الله عنه عن السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله)، فبإشاعة السلام والتواد والتكافل بين المؤمنين يتحقق التماسك والاستقرار الاجتماعي الحقيقي:”مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى (رواه البخاري ومسلم من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه). كما إننا عندما:” تنمو في نفوسنا بذور الحب والعطف والخير، نُعفى أنفسنا من مشقات كثيرة، فلن نحتاج لتملق إنسان، فالصدق كائن، ولن يخلو إنسان من مزية، ولن نضيق بالمخطئين فالعطف والشفقة والنصيحة تشملهم”.